قد تكون الجملة التي أدلى بها الروائي الأميركي الراحل بول أوستر (1947 ــــ 2024) عام 2017: «أريد أن أقلب كل شيء رأساً على عقب» كافية لتلخيص سيرة حياته برمّتها ومشواره الكتابيّ كذلك. مولود من عائلةٍ لم تعرف الفقر والعوز، بيد أنّ خلافاتٍ متكررة بين الأب والأم حول قيمة المال وكيفية إدارته أنهت زواجهما، وأسبغت حالة (مبكرة) من الارتباك والتخبط عند الابن جعلته يواجه ضيقاً وتعثراً كلما بانت أمامه أهمية المال وانكشفت ضرورته في تيسير أمور العيش. كان بمقدور بول أوستر أنّ يكون ابناً مدلّلاً ينعم بوسادته المريحة، لكنه اختار وعورة الطريق. لربما هو أرقٌ أصابه باكراً أشعل في داخله رغبة في المشي، والتفكير أثناء المشي على حساب النوم. أرقٌ ورغبة لربما عزّزهما نفور أوستر من عادات أهله ومن مجتمع أميركا الغارق في المادية في نهاية الخمسينيات. مهما يكن، لقد ارتدّ أوستر على فطرته وانقلب على «وضعيته الجاهزة». لم يأبه بمنزلٍ محصّنٍ إنّما شيّد عزلته في غرف نوم بخسة، اختار العمل في تركيب أجهزة كهربائية في البيوت عوضاً عن اعتماده على مصروف ماليّ ممنوح من العائلة. وبدلاً من أن يرث بالاً هنيئاً ــــ ولو ورث، متأخراً، أموال والده بشكلٍ لم يكن يتوقعه على إثر وفاة الأخير ـــــ ورث شعوراً بالاغتراب، والكدر، وحسّاً دائماً بالتفسخ والفقدان. مشاعر ستسكن أوستر حتى مماته، كلما تغوّل في وحشتها وغرابتها تكشّفت لغة مخبوءة، جوانية، لكنها قيد التكوين، وعند نضوجها أصبحت ترياقاً له في وسط عالمٍ موبوء وغث، سيسخّرها ببراعة لاحقاً في سرده ديستوبيا المدن، وهشاشة الكائن الإنساني، وحالات الفشل والكآبة والموت التي طاردته منذ أن كان فتياً.

تأثّر بباريس والسريالية بقدر ما تأثر بإدغار آلن بو وشارل ديكنز، ونيويورك بكل ما تحويه من أبنية ودهاليز ومشردين وملعونين

لقد لخبط بول أوستر مسار حياته وقلبها رأساً على عقب. قبل تلك «الحرب الإيديولوجية» التي نشبت بين والديه على خلفية المال، لم يهنأ بال أوستر ولم يعرف الطمأنينة: «كانت سعادتي مشوبة دائماً بجرعاتٍ من القلق لأنني كنت أعرف بالضبط ما سيقوله أبي عندما يتلقى الفاتورة». هكذا، اقترف قطيعةً جدية مع كونه ابن عائلة ثرية، غير واعية أنها جاثمة تحت استبداد سلطة المال، تتخاصم طيلة الوقت حول مسائل الإنفاق والتبذير، ليتعامل مع وجوده تبعاً للمقولة (الوجودية) الشهيرة: «الإنسان مقذوف في هذا العالم». شّق أوستر طريقه الخاصة من دون أن يكترث بأنّ الطريق التي شقّها محفوفة بالشوك والندوب. اختار، بقرارة نفسه، السير حافياً في وحشة الطريق، لكن الآن بإمكاننا أن نفهم بأنّ انزياحه عن السياق ليس إلا اعتكافاً بوجه ما شغله دائماً: المصير.


حين اقترب أوستر من الأدب، أي بعدما تمخّضت لغته واستوت، أو حين «اختارته» الكتابة كما كتب، قلب مرةً جديدةً كل شيء رأساً على عقب. بدأ الأمر في إحدى الليالي حين فكّر في كتابة رواية بوليسية لها عمارتها المختلفة: «في نهاية القصة (البوليسية) عندما تنحلّ في آخر المطاف جميع خيوط الحبكة التي كانت معقّدة، نكتشف أنّ الشخصية السيئة هي المسؤولة، فعلاً، عن هذا الموت. تساءلت: لماذا لا نغير هذه الطريقة رأساً على عقب؟ لماذا لا نبتكر قصة ينكشف فيها أنّ الموت الظاهر كان انتحاراً؟ ففي حدود علمي، لم يسبق أن حدث هذا الأمر». كتب أوستر روايته البوليسية هذه ولم تحظ، مثل الكثير من أعماله في مرحلة الشباب بالاهتمام. لكن اندفاع بول أوستر لم ينضب. كان أحد ملهمي أوستر، مسرحيّ العبث صامويل بيكيت الذي قد أفصح يوماً «هل فشلت؟ لا يهم، حاول مرة أخرى، افشل مرة أخرى لكن فشل بشكلٍ أفضل».
استمر بول أوستر في الكتابة، والتجريب، ونزع الشوك عن حياته. رمى في سلّة المهملات ما يفوق عن الألف صفحة من كتاباتٍ اعتبرها هزيلة، أخفق في كتابة مسرحيات مثيرة غير غارقة في الإطناب، وبقيّ شاعراً مغموراً في الأوساط النيويوركية. وبالرغم من هذا، لم يطحه اليأس. بقي حالماً متمسكاً بحلمه بأن يصبح كاتباً غارقاً في الكتابة لا يمتهن أي وظيفة سواها. كاتب متأثر بباريس والسريالية بقدر ما هو متأثر بإدغار آلن بو وشارل ديكنز، وبنيويورك بكل ما تحويه من أبنية ودهاليز، ومشردين وملعونين كان معظمهم ضحايا قدرهم حيث انقلبت حياتهم فجأةً رأساً على عقب. اتسمت رواية بول أوستر بملامح هؤلاء وبأثرهم. استمد أبطاله من هذه الشخصيات التي تعرّض مسارها الوجودي إلى التواءٍ بشكلٍ اعتباطيّ، غير مفهوم ولا عقلاني بفضل قوّة المصير العمياء، وعليه، سيركّب حبكته بناءً على هذه التحوّلات العشوائية.


سيستهل قصصه برصد التحوّل/ الحبكة: ورود مكالمة هاتفية من مجهول غريب، رجل يرمي نفسه من طابق شاهق، موت غير متوقّع للأب، ليعيد صياغة الحدث بالتفاصيل ضمن بناء سردي متين. سنجد في نهاية المطاف أدباً على قدر كبير من الغرابة والعبثية، بيد أنه أيضاً على قدر كبير من الألفة واحتمالية الحدوث. فالوجود عند بول أوستر عرضيّ، ممكن، تحكمه المصادفة، والراوي الذي أسر نفسه في جغرافيا الأدب خوفاً من موتٍ مباغت، كان عرضةً لأن تقتله صاعقة، لكنه نجا بفضل الحظ: «لحظات قليلة أنقذتني من الموت. لو أن البرق تأخر نصف دقيقة، لكان أصابني أنا وليس التلميذ. لماذا حدث الأمر على هذا النحو؟ من قرر أن يموت التلميذ وليس أنا. الصدفة».
تغدو الرواية عند أوستر أشبه بمحاكاة لواقع حدث أو واقعٍ في طور الحدوث. هكذا يدنو الأدب من الحقيقة، بل يبدو الأدب حقيقياً للغاية؛ نقرأ أوستر ونرى الفضاء المسرود مرسوماً أمامنا بل نكاد نتعرف إليه: عمارات كبيرة داخل جوّ ضبابي داكن، صمت، ليل طويل مقلق يشي بأن أمراً مريباً سيحدث عما قريب، وهناك رجل بين سن المراهقة وسن الرشد يمشي وحيداً في الليل، يعتقد أنه عميق وقاسٍ، يعاين الوجود ويسجل انطباعاته وملاحظاته، غير أنّ الحدث الغامض يدور برمّته حوله. وروايات بول أوستر تحاكي أيضاً واقعاً قد يحدث. كأنّ الرواية هنا تطلب من الكاتب الواعي بحضور المصير وبجوهره، الانصياع لحدسه والذهاب إلى أقاصي اللغة: التنبؤ، أو ما يخال لنا أنه كذلك. إنّ بول أوستر يتماثل مع شخصية المحقق في رواية «ثلاثية نيويورك» الذي اعترف بأنّ «العالم مكوّن من أجزاء وعليّ أن أعيد تركيب هذه الأجزاء بعضها ببعض». إننا-جميعنا- نعيش داخل رواية مأساوية كبيرة وما نحن سوى كائنات قصصية. أما الراوي فهو ذلك القادر على ربط اللامعقول، وعلى إيجاد خط ناظم يرسم طبيعة الأحداث المتغيرة. لكن للراوي، أي بول أوستر، قصته الخاصة أيضاً. لم تكن الكتابة عند بول أوستر الذي عشق العزلة صنوّ الحرية فحسب، بل كانت ترياقاً لضنك العيش وتمثيلاً للكارثة.
أدبه عن ديستوبيا المدن، وهشاشة الكائن الإنساني، وحالات الفشل والكآبة والموت التي طاردته منذ أن كان فتياً


في أعماله غير الروائية الأخرى، أي في السير ذاتية أو في أدب المذكّرات، ستحلّ الذاكرة بدلاً من الخيال. ستحضر التجارب الشخصية عوضاً عن «إعادة تركيب الأجزاء بعضها ببعض»؛ الأجزاء أي الأحداث المكسوّة بالغموض والمأساة، في عالم تفصله قشة عن الانهيار. عدا كون ضمير المتكلم الذي لطالما استعمله، حقيقياً في النمط السردي هذا، فلن يتغير الكثير. على غرار رواياته، تتجلى جماليات أدب ما بعد الحداثة. هناك لعب حر مع الزمن، الهويات ذائبة، الوعي الذاتي مقهور، والجمل متدفّقة وطويلة. المأساة- مأساته- واقعة لا محالة، والبحث الميتافيزيقي موجود. قدرة أوستر السردية استثنائية تتيح له التوغل في نظام الكلمات والأشياء. يبني حياته من جديد بواسطة اللغة، لغته التي صقلها الإخفاق والتعثر والفشل. الأسئلة الكبيرة التي تدور حول القدر والحظ و«المجرم»... طافحة في هذا النمط السرديّ، والتفاصيل الصغيرة كذلك. بول أوستر مثل أبطاله يخاف متاهات القدر وأفخاخاً غير مرئية تنتظره، لكنه أوفر نصيباً منهم ومدمن على الرهان.
في سيرته الذاتية «تباريح العيش... سيرة الشباب» (دار خطوط وظلال ــــ ترجمة محمد الفحايم) التي صدرت أخيراً باللغة العربية بعد مرور أكثر من عقدٍ من الزمن على صدورها بلغتها الأصلية، يبدو بول أوستر كمن يجلس على كرسي الاعتراف. الكتابة أقرب إلى اعترافات حميمية لطفلٍ كره سيارة والديه لأنّ هناك من لا يملك ما مُنح له. يندرج «تباريح العيش... سيرة الشباب» في خانة السير الذاتية التي ابتدعها أوستر مثل «كتاب الذاكرة» الذي يشكل الجزء الثاني من رواية «اختراع العزلة» (منشورات المتوسط)، و«تقرير من الداخل» (دار الرافدين)، و«حكاية الشتاء» الصادرة حديثاً عن «دار نوفل». نقرأ قصة ذلك الشاب الذي آل كل ما فعله في العشرينيات من عمره إلى الفشل. نقرأه متذبذباً، في حالة من الصراع المزمن مع المال. نقرأه متمرداً على صورة والديه، وعلى السلطات جميعها. نقرأ بول أوستر الشاب الذي رفض ارتداء أقنعة، أو تأدية أدوار تمثيلية، أو أن يكون حمّال أوجه. رفض أن يعيش حياةً مزدوجة كباقي الكتّاب.

في سيرته الذاتية «تباريح العيش... سيرة الشباب» التي صدرت أخيراً بالعربية، يبدو كأنّه جالس على كرسي الاعتراف

أراد امتهان الكتابة فحسب، فراح يتسابق مع الزمن. الهدف كان جني ثروة مالية كبيرة في سنّ العشرين لكي يتفرغ لاحقاً للكتابة. يحفر بول أوستر في نفق الذاكرة، فيستنبط ذاته من جديد. يستعيد ماضيه، يسائله بصيغة الحاضر، فننزلق معه إلى الفخ. ستبدو لنا قراراته آنذاك كحماقة بريئة لكنها أشبه بخطايا كبيرة، لكن لا رجم بالحجارة ولا حاجة إلى التكفير عن الذنوب. تعمّد بول أوستر بمياه الفشل والإخفاق والتعثر من شلال ذاك الماضي، فولد كما أراد أن يكون عليه: كاتباً.
في «تباريح العيش... سيرة الشباب» النوستالجيا غائبة، هناك استعادة لوجوه وحكايات وأماكن، لكن ليس هناك حنين. ثمة عواطف باردة عندما يستعيد السارد محطات حياته، لكنه لا يلبث أنّ يستعيض عن هذه البرودة بسردٍ كثيف، تتفرع عنه خيوط وسياقات واستطرادات؛ سرد متعب كأنه الإرهاق الذي سيطر عليه أيام شبابه معاداً. في سيرته الذاتية هذه، نرى بول أوستر حياً. نكتشفه وهو يحاول جاهداً مكافحة أوقات الشدة، ومقاومة الكآبة والخيبة من المردود القليل التي تعود به الكتابة في مقابل استحواذها على روحه. تصبو الكتابة في الحالة هنا إلى أن تكون اغتراباً/ استلاباً. وهذا يعني أنّ بوسع المصير أن يحوّل ما كان ترياقاً إلى داءٍ. غير أن بول أوستر في «تباريح العيش... سيرة الشباب» بدا أنه يعيش حياته وكأنه بطل لرواية لم يكتبها بعد. كان الأدب بالنسبة إليه، يعني الغوص في العمق السحيق للغريب. لم يبدع بول أوستر أدباً فحسب، إنما أبدع في خلق نفسه كأديبٍ، ولهي نهاية جميلة لقصة حقيقية، عاشها وكتبها بول أوستر.