لعبة فنية ممتعة فيها الكثير من الحرية والإبداع هي تلك التي نعثر عليها في «حوارات بريد السماء الافتراضي». يواظب الشاعر العراقي المقيم في الدنمارك أسعد الجبوري (1951)، الحوارات الافتراضية التي سبق أن نشر باقة منها في كتابه «شعراء نائمون في غرف الغيب» (الهيئة العامة السورية للكتاب ــــ 2019) ويواصل تحديث مضمونها أسبوعياً على صفحته الفايسبوكية: إنها حوارية جمالية تغوص في أعماق الشخصيات الشعرية الراحلة، ساعيةً إلى تظهير العوالم الشعرية لهؤلاء المبدعين، بعيداً من الرتابة والهرمية و«التفاوض على تبادل النصوص الشبيه بسيوف، أكلها الصدأ ولا ترغب بمغادرة الغُمد». ويشتغل الجبوري في هذه النصوص كناقد وباحث اجتماعي ومحلّل نفسي على حدّ سواء. يفتح بكثير من الحرية من أجل اختبار الشعراء الموتى في ذلك الـ «هناك» الآخَر بعد الموت، ويقدم للقرّاء مفاتيح لتذوق وتأويل شعرية قدامى الشعراء ممن لم تستوعبهم الذاكرة المعاصرة. صاحب «أولمبياد اللغة المؤجلة» يفتح مشرحة الشعر لينفض عن النقد الشعري رتابة اللغة الأكاديمية الفجة، إذ يقول في أحد حواراته الصحافية واصفاً هذه التجربة المشاغبة: «البريد يُعيد صياغة التجارب الشعرية بحُرية، فيكشف عن أسرار وينقّب في حوادث سرية غير معروفة عن الشعراء سابقاً ويملأ الكثير من الفراغات التي تركها النقّاد والدارسون عن أحوال تلك الشخصيات الشعرية التي مرت على الأرض. يمكن اعتبار البريد بمثابة رحم جديد لولادة شعراء جدد، لا يملكون من تراثهم السابق سوى الأسماء فقط». من قلب هذا البريد، نستلّ في «كلمات» حوارات يختلف أقطابها في توزّعهم الزمني والمكاني وأساليبهم التعبيرية وألسنتهم، وينجح الجبوري في الدخول إلى فانتازيا الغيب لديهم، ناقلاً كرة النار التي كانت بين أجنحتهم بين الأرض والسماء

إعدام الحلاج (مخطوطة توضيحية من الإمبراطورية المغولية ـــ حوالى 1600)


أبو الطيب المتنبي
(915-965 م)

أيهما يثيركَ في الشعر أكثر، روح الشيطان أم ملاكُ اللغة يا أبا الطيب؟!
- لا وجود لملاجئ في الشعر، لا لملائكة ولا لشياطين. ذلك ليس بالأمر الصحيح. فالأبالسةُ أميون لا يعرفون إلا لغة المكائد. والملائكةُ تربةٌ غير صالحة لنمو القصائد.
ومع ذلك، فالشعر النظيف، لا يعني غير الكتابة في الطقوس الباردة.

ولكن. ألا تعتبر الأوزان والقوافي بمثابة طواحين، لاستهلاك الشاعر المُستخدِم لها؟
- قد يصح قول ذلك. وطالما شعرتُ بأن تلك البحور أشبه ما تكون بأعمدة من خزف. يمكن أن تنهار بالشاعر، وتتركهُ رماداً. المهم أن يمتلك الشعرُ قوةً لعَسكَرة اللغة وجعل الحروفَ أشبه بالحراب المتهيئة للاختراق. فكل ذلك يحمي الشاعر من التفتّت والطحين.

برأيكَ.. كيف تنمو الرمالُ في القصائد؟
- عندما يضيقُ رأسُ الشاعر، وتصبح الكلماتُ مجرّدةً من الحكمة والألم، ومليئة بذيول لا يطالها مقصٌ.

أنتَ لم تعش عِلْم الأرصاد الجَويّة. كيف كنت تتعايش مع المناخ الصحراوي وما تأثير ذلك على القصيدة؟
- في تلك الأيام، كنتُ أعتمدُ على المخيّلة مظلةً للوقاية من الشمس والمطر على حد سواء. كنا نقرأ الطقس بالعيون المجرّدة. وفي كل مرة، تطرقُ الرمالُ باب القصيدة لا تجد عندي لها مفتاحاً هناك.

جميل بثينة
(؟-701 م)

هل كانت الإبلُ ما بين بثينة وبينك هي الخط الساخن يا جميل؟
- لم تكن الإبلُ وحدها. كان هناك السبابُ الذي مدّت للغرام جسراً لنتقفّى آثار النار.

عن أية نارٍ تتحدث أنت؟
- أتحدث عن النار التي لا تشبهها في الفَلوات نارُ، ولا يَزفرُ عنها من الأجسادِ دخانٌ.

إذا كنت تقصدُ الحبَ، فما العلةُ به كأن يكون حطباً للنار يا جميلُ؟
- ما أشبهَ الحبَ بسنام البعير. يدخرُ الأول بجيبِ روحهِ ناراً فيما سنامُ المخلوق الثاني مخزونُ ماءٍ لإطفاء اللحوم يوم تشبُّ بها الحرائقُ في بطون الصحارى.

ألا يرى جميلُ أنّ للإبلِ عند أهل الحجاز والجزيرة حظوة بنشوء الغرام ما بين العاشقين؟
- أجل. كانت الإبلُ قديماً بمثابة خطوط ساخنة لمواقع التواصل الاجتماعي ما بين نساء القبائل وذكورها ممن تورّطهم الإبل بذلك الغرام، كما سبق وأن حدث لي ذلك ذات يوم مع بثينة في «وادي بغيض» قرب المَدينة المُنَوّرة.

وهل حدثت قفزةُ الأفئدة هناك؟
- لا تأخذكَ الأفكارُ إلى حقول الجسد. فهناك حدثتْ قفزةُ القلوب لا قفزة الأفئدة.

وهل ثمة ما يفَرق ما بين القلب وبين الفؤاد برأيك؟
- نعم. الفؤاد ليس بالقلب ليتَعَشّق بالمحبوب. مثلما لا تَتقلّبُ نيرانُ المحبوبِ إلا بشرايين المُحبِ المأخوذِ بكهربائيات النبض وما يُورّثهُ لمخ المُتَيّم.

وهل الفُؤادُ هو قلبٌ شبيه بالدولاب الاحتياط في السيارة؟
- دعني أتخيّلُ شكل السيارة وهي تشقُ رمال الصحارى قبل النطق بالحكم على الدولاب، لأعترفَ بأن الفُؤاد هو النسخةُ المزوّرة للقلب.

هل يرى جميلُ فَرْقاً ما بين قلب المرأة وما بين قلب الرجلِ؟
- لا يظننّ أحدٌ أن القلبين على سطر واحد. فلكلّ قلبٍ خريطةٌ وسيرةٌ ذاتيةٌ من التراث الجيني. لذا يمكنك أن تقول كان لجميل القلبُ الأصلُ والفُؤاد الاحتياطُ. فيما كان الهوى راعياً لما في جسد بثينة من ثَّدْيِيَّات مُتَكاثرِة.

أصحيح ما قيل عن انتساب الشعر العذري إلى بني عذرة (وهو نوع من الوجد يستبد بالعاشق فيسيطر عليه خيال محبوبته، ويظل يفكر فيها ليل نهار، ممتنعاً عن العمل والطعام حتى يصل إلى درجة من الهزال قد تفضي به إلى الموت). ما قولك؟
- ذلك هو وزر الحب العظيم بالضبط أن تموت بالتقسيط جسماً، ويحيا الشعرُ لغةً للأبد.

أكنت سكراناً فقد الوعي من شدّة ثمالته ببثينة يا جميلُ؟
- هي خمرتي دون صحو بعدما فتحت لي الملائكةُ تحت التراب حانةً لأكمل ببثينَ سكرتي حتى الدورة الأخيرة من قيامة الوجود بعد العدم.

هل تأملُ أن تكون لكَ روحها كأساً أم جسدها؟
- في بثينَ توحدت وحدةُ الواحد روحاً وجسداً حتى سيلان الشمس من ظهور اللُحوم وصولاً إلى الحجر.

ألمْ تدرك عشيقتك أن بعروقها دماً يجري ويشتعلُ وأن ماءها قد لا يكفي لإخماد شهوة من تلك الشّهوات؟
- بلَى. ولكنها كابَرت على نفسها، ولم تحذر، عندما أفلتت خطوات قدميها الناعمتين نحوي من دون توطئة أو توقف.

وما الذي كان بعد ذلك الخط الإبليّ الساخن ما بينكما يا جميلُ؟
- لم يخلق خطُ الإبل المومأ إليه غير حصان وفرس. ذلك ما أنتجته حرارةُ الخط بعدما قَلَبت الخصامَ إلى ما يفوق المودّة درجاتٍ والساعة قروناً من الحب.

وكيف يُحبّبُ حصانٌ فرساً إليه ولا يكون الحبُّ حيوانياً؟
- نحن في أصول الأصول من مراتب الحيوانات الناطقة قبل النطق، ولكن كتلاً دماغيةً مبهمةَ تمرّنتْ برؤوسنا، فجعلتنا نُفْرقُ بالتدريج ما بين الغرائز الناجمة عن السلوكيات الفطرية والمستحدثة.

وفي أية خانة تضع حبكَ لبثينة يا جميلُ؟
- في خانة التَّلَفِ ليس إلا.

الحسين بن منصور الحلاج
(858-922 م)

كيف وصلت إلى السماء وكنت على تلك الأرض مقطّع الأوصال ومنفصل الرأس عن الجسم؟!
- لقد سحبني الله إليه بقانون من فيزياء الشغف الإلهي.

أكان ذلك القانون شبيهاً بقوة الطرد المركزي الذي تخضع له الكواكب والنيازك في الأكوان؟
- أجل. ولا تخضع إلى مفهومهِ كل الأرواح في التطبيق.

لماذا تعتقد ذلك برأيك؟
- لأن في كلّ روحٍ شيفرة مختلفة عن الأخريات، سواءً بالولادة أو بالسفر والتنقل ما بين طبقات الفضاءات الشاسعة.

وكيف جمعتَ قطع غيار جسمك المقطع قبل الصلب وبعده، لتأتي إلى هنا كامل الجسد؟
- عندما اجتمعت عليّ الخطايا وأجمعوا على قتلي بشرورهم، ناديتُ على كلمات لغة الباطن أن توصلني بالله، لأكتمل وتعود إليّ أعضائي المبتورة. وقد حصل ذلك بفضلهِ العظيم.

ورأسك المقطوعة. من أعادها إلى مكانها على رقبكَ يا حلاج؟
- أعادها الشيطان الذي قطعها نفسه.

هل ساورهُ شعورٌ بالذنب، ففعل ذلك تكفيراً عن خطيئة عظمى ارتكبها بحقك؟
- لا. ولكنه أراد أن يستكمل استجوابي عن لحظة اندماجي بالله.

أكان الاندماج بالله تهمةً؟
- وأسوأ من ذلك بكثير. فتحت راية البلاط العباسي، كانت الجهالةُ السوداءُ تغمرُ رؤوسَ خدم الخليفة الأعمى عقلياً، حيث يتلقّى منهم التقارير وينفذها وهو مخمور بأحضان الجواري وراقصات الهوى على أطراف السرير.

الشاعر الفرنسي ستيفان مالارميه
(1842-1898 م)

هل كانت فرنسا أمُ الشعر الأوروبي برأي مالارميه؟
- بالتأكيد نعم. ففرنسا هي الخليّة التَّناسليّة الذَّكريّة التي طالما اتَّحدت بالبيضة الشعرية الأنثويّة لإنتاج القصائد الحارّة التي ليس لها من مثيل يخرجُ من بين بقية أرحام القارة العجوز وضفادعها البارعة ذات النقيق في الخمارات .

وما مردّ ذلك برأيك؟
- ربما لأن الفسقَ هو مرضُ الشعر الأول قبل الأخلاق والمعاني التي تتشابك حولها قوانين السلوك اللغوي المهذب.

هل لا نفع بالتهذيب في الشعر؟
- بالضبط. فإن تهذب قصيدتك، فمعنى ذلك أن تقوم بإجراء عملية ختان لها وذلك ما يوفر للشعر الفرصة الأول للتخشّب أو التجلّد فالموت.

ولكنك لم تنشط ضد الأخلاق شعرياً، بقيت ملتزماً بالسلوك الهادئ والنمطي القائم على قواعد احترام التراث ومنابع الشعر الكلاسيكية. أليس كذلك؟
- لم أستعمل التشويش على ذاتي وكائناتها. تركتها مختمرة بتربة الشعر الأولى من دون الاستعانة بالأسمدة التي جاءت بها المدارس الشعرية الحديثة.

ألا يُعد انحيازك هذا إلى فرنسا، نوعاً من التموضع العنصري ضد الشعر الأوروبي؟
- لا أعتقد ذلك صحيحاً. فما كنت أعنيه، هو قوة الشعر الفرنسي بالتفجّر والثورة واستحداث محركات جديدة للشعر على صعيد العالم.

وما سبب ذلك التفجّر الشعري في فرنسا برأيك؟
- أعمال الشيطلائكة في حدائق المخيّلة، ورفضهم تقديم الولاء لمرجعيات الماضي بمختلف حذافيره.

ماذا وجدت في الرمزية، لتكون منتمياً إلى عوالمها؟
- كانت الرمزية أحد الزوارق في عرض البحر، وكنت مضطراً إلى الاحتماء بها خوفاً من الغرق.

تبدو أنك لست مغامراً؟
- بالضبط. لا أحب أن أكون مغامراً لا على التراب أو على المياه أو الورق.

ألا يسقط عنك مثل هذا الاعتراف صفة أن تكون شاعراً؟
- لا أظن ذلك.

لمَ أنت متأكدٌ من ذلك؟
- لأن الشعر والشعراء، لا يخضعون للقوانين النقدية ولا للقواعد اللغوية التي تفرض عليهم أنماطاً محددة من السلوكيات أو الكتابة أو التفاعل مع كائنات الوجود.

أنت عشت طفولتك وحيداً بعد رحيل والدتك بشكل مبكر. كيف تندمج صورة الطفل مع صوت الوحدة؟
- بالنمو السريع.

ما الذي تقصده بالنمو السريع بالضبط يا مالارميه؟
- أعني النمو في الحب حتى سقوط الجسد في الجسد الآخر.

هل ثمة كلمات عذراء وأخرى لا؟
- نعم. وأسوأ ما رأيته في حياتي هي الكلمات غير العذراء.

لماذا؟
- كونها تنتمي إلى اللغات الشهوانية المشحونة بتلك الوقاحة التي عادةً ما تولّد الشياطين والتعهر غير المُلزِم لكتابة النصوص.

ألا تعتقد بأنك يا مالارميه أخلاقي متطرفُ، وذلك ما لا يُسدي خدمةً للشعر؟!
- لا أظن ذلك بحق. فعلى الشاعر أن يكون طبيعياً في حقول الكلمات، ويمتنع عن جرّها وراءه إلى طواحين الجنس الحمراء القاتلة للأخلاق والعادات.

هل كنت ملحداً جنسياً؟
- كنت زوجاً ملتزماً بلا فضائح ومغامرات وتشابك عاطفي خارج القفص الذهبي.

وأيهما الأكثر متعة عندك، القفص الزوجي أم قفص الشعر؟
- أنا جمعتُ الاثنين في غرفة واحدة فكانت الأحلام المشتركة ما بين القفصين. وكان الهدوء الذي لم ينتظر العاصفة.

الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين
(1942-2022 م)

ما الخطُ الفاصلُ ما بين الولادة والموت يا محمد علي؟
- هو خطٌ وهميّ للضَّلالة. خطٌ شبه خط الاستواء، ولكنه من النايلون القابل للذّوَبان بسرعة الضوء هذه المرّة.

هل وقفتَ عليهِ خائفاً أم واثق القدمين من دون تلكؤ أو من دون الالْتِفَات إلَى الْوَرَاءِ؟
- لا. أنا مشيتهُ حتى زَلّتْ قدماي فوقعتُ على سطرِ الشعر.

وماذا أدركتَ بعد تلك الزَلّة؟
- رأيتُ جسمي يتحوّل إلى مدينة، ويرتفعُ من جغرافيّة الذات إلى جيولوجية الحنين بين طبقات اللغة.

أتظنُ العقلَ طيناً يا محمد علي؟
- لا أظنُ ذلك حتى لو كانت أعضاء الجسم كلها قد صُنعت من تلك المادة.

كأنكَ تتسامى عن التراب المقدّس، فتتركُ الطينَ للأسماكِ في الأنهر وطيناً حتى بناء حيطان الغرف والأكواخ، وطيناً لتصاميم التماثيل عند أهل النحت بالطين أو بالحجر؟!
- وماذا أفعل إذا كان الشعرُ هو السموّ، مثلما السموّ هو الشعرُ بتفاصيلهِ المعرفية وكلّياته الصوتية الهائمة بكلّ أوبرا ينجزُها الشعرُ وتسحرُها أبواقُ الأساطير.

تعال لا نستبق حركة الروليت في هذا الحوار، ونسألك: من أين جئت يا محمد علي. هل جئتَ من شمس الدِّين أم من الدَّيْن العام للشمس على الأرض؟
- ربما أكون قد جئتُ من كليهما. من دين الإيمان بالله، ومن دَيني للنور الذي غمر عينيّ من شمس الخالق.

هل تشكّلت جسدياً من الاثنين، لتصبح قَبساً تركيبياً للأبالسة الشعريين ممن غرّرتْ بهم الأساطير، فجعلتْ منكَ ظلاً هائماً بتراكيبهِ ما بين التَكْثيف والمجازفة والمبالغة بنزيف الباطني؟
- أنا بخار النور الشعري الذي تشكّل من الاثنين، ليخرج من اللغة جنيناً شعرياً بَشّرَتْ به الطبيعةُ مذ يومَ كسّرت صمتها، ليكون صوتاً نافعاً بإيقاظ أهل السبات من الأميين وخواجات السياسة المتنفذين بكراسيّ الدورة الدموية في جسد لبنان.

كيف كانت رحلةُ محمد علي على سطح تلك البسيطة؟
- أظن أنني بدأتُ رحلتي جالساً بمقدمة قطار، بينما حواسي، فكانت تتبعني من جوف الحياة العميق، ولم تنته بعد، لا بشمس كربلاء وهي الأقوى سطوعاً في الدم والرثاء اللغويّ. ولا بتصوف المذهب الشافعي للتبريزي هوساً، ولا بسَحائِب مولانا الحنفي جلال الدين الرومي.

وما خصائص كلّ واحد من الثلاثة برأيك؟
- وجدتُ الأول إلهيّاً أكسب شعري قوة الغوص بفرات الآلام. فيما تعلّمتُ من الشافعي التبريزي تصوّف الكلمات في سير الرموز التراجيدية التي توَزَعَت على لغتي. فيما غيوم مولانا الحنفي جلال، فوسّعت أمطارَها لتشمل خرائط غرام الشغف بمختلف الاتجاهات، ليرى الشعرُ أكثر ويستوعب أكثر وينتصر على الجفاف بالقوة اللائقة بالتَدْوين.

كيف يمكن للشاعر عدم التماهي مع الآخرين من الشعراء مثلاً؟
- أنا عشتُ حذراً من فكرة الاندماج بالآخر أو الاستعانة بالطوارئ حتى لو وجدتُ لذلك تبريراً بزَحاف العروضيين الخفيفُ منها أو الثقيل.

هل اعتقدتَ بأن الشعر العرفاني لا يحيا إلا بالإيقاع الخليلي؟
- أظنُ أن الإيقاع هو بخور الشاعر الصوفي، ولا يصحُ تركَ الحبل على الغارب الفارغ من الإيقاعات.

وماذا يوجد بذات محمد علي شمس الدين؟
- يوجد ما أعرف وما لا أنا بتلك الذات عارف.

هل كانت جيولوجية الباطن مُعَقّدة إلى حدّ يفقدُ فيه الشاعر القدرة على وصف نفسه؟!
- لا أريد الذهاب إلى العمق كي لا أقع بخطيئة التفسير وأندم على ما قد يبنى من تأويلات عن تلك النّفس الأمّارة بالتوحّد والجنون البارد.

وإذّاك كان الباطنُ مجهولاً وينذرُ بالخوف عند الإفصاح، فما الذي تقوله عن الظاهر الذي أنت على شكله على سبيل المثال؟
- ظاهري مرآةٌ للطريق وباطني كان مثل الصندوق الأسود للطائرات.

الشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد
(1934-1967م)

هل الحبُ نظامٌ يمكن خلخلتهُ على سبيل المثال؟
- الحبُ نظامُ إلهي يعتمدُ على القضاء والقدر. وربما لا يُسْتَعْمل مرةً واحدةً فقط. مثله مثل الموت الذي يمر بمراحل عدة من المرض والجنون والغيبوبة، ثم يأتي الخراب الإكلينيكي الذي يدفع بعربة الموتى إلى الخوض برحلة ما وراء الأرض.

مذهبُ الوجودية في شعرك يتعلق بالشهوة كنواة تدور عليها رحى الطَّاحُون بشقيها الذكوري الأنثوي. أليس ذلك كان عملاً باهظاً لكتابة شعر على المنوال الغرامي في المساحة الإسلامية؟
- ما دام الطَّاحُونُ لا يستطيع العمل بقطعة واحدة من الرَّحَى الاثنتين، فإن من حق آلَة طَحْنِ الأجساد المشتركة، أن تنال جوائز الدولة التقديرية، لا التوبيخ الأعمى من رموز الإرهاب الفكري ممن يعتقدون أن الربّ الذي خلق الشهوة الأعظم للوجود والموجودات، قد كَلّفَ البعض أن يرموا بها في صندوق القمامة بقرار استباحي.

ثمة من يلاحظ بأن أمتعة الشهوات عند فروغ فرخزاد زائدة عن الوزن المسموح به دينياً. لذلك يحتاج إلى تدخل من شرطة الآداب. ما رأيك؟
- أنا لا أعرف: كيف تكون للشعوب على الأرض شرطةٌ للآداب، فيما لا وجود لشرطي في السماوات؟!!

فروغ فرخزاد في جلّ ما كتبت من شعر، تركت الشهوةَ هي السَّنترال الذي يقوم بالتحكم في اتصالات شبكة الحواسّ، وبالتالي امتلاك القدرة الكافية بتوزيع الكلمات على النصوص، وفقاً لدرجة حرارة لغة العين المتشابكة الأسلاك. ما مدى صحة قول كهذا؟
- كلّ هذا الكلام بديعٌ. فالشاعر ليس غير مُدِيرِ تنفيذي لمختلف الانقلابات التي تحدث في الحواسّ، وقبيل أن تدفع بكائناتها الحيّة والمختلفة في مجرى اللغة. أنا لم أكن امرأة حديدية مثل مارغريت تاتشر التي سبق لي وأن صادفتها قبل أيام هنا في دكان لبيع المسامير والبراغي. أنا وجدتُ نفسي في حوض الحبّ بمائه ورماده وناره وأنينه ولن أبقى بعيداً منه، حتى لو تحولتُ إلى أنقاض مشتتة بين العواصف.

هل تكمنُ بطولةُ الشاعر في صناديق ذكرياتهِ؟
- أجل. وطالما الذكرياتُ، لا تتركُ الشاعرَ سَيّدَ نَفْسِه.