إن كان لا بد من كلمة مفتاحية تعبّر خير تعبير عن الروايات الستّ المرشحة لـ «الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)» التي سيعلن اسم الفائز بها غداً الأحد في أبو ظبي، فستكون بلا تردد «التاريخ». وإن صدق المفكر الماركسي المجري جورج لوكاش في تعريفه للمثقف بأنه ذلك الذي يواجه التاريخ بالأدب، ويواجه الأدب بالتاريخ، فإننا أمام روايات تختلط فيها المتعة بالمثاقفة، وتنسج فيها التواريخ الكبيرة للمنطقة من القصص والسرديات الصغيرة: من خاتم طافح بالحكايات في مدينة حلب السورية ينتقل من جيل إلى آخر، مروراً بحفلة مقامرة كبيرة على الأحصنة في ميدان للخيل في القاهرة واختلاطها بقصص الحسناوات والباشوات والفروقات الطبقية في القاهرة الساحرة، وانتقالاً إلى جريمة غامضة في إحدى مدن المغرب، يحاول الراوي فكّ لغزها عبر جمع خيوط حكايات ثلاث يكون القاسم المشترك بينها فن الفسيفساء الروماني القديم... وليس انتهاء بأجواء العبودية خلف أسوار سراي عائلة «السردار» في مدينة مكة حيث يقبع عالم كامل من البطركية والاستبداد وطمس لهوية النساء المهمشات: نحن إذن أمام بساط مزركش مذهل من حكايات هذا الشرق وقدرتها على إظهار تنوع عاداته وتقاليده وهوياته، وأديانه وأعراقه وتفاعله مع الأفكار القادمة من الضفاف الأخرى. لكن الأجمل هو حضور فلسطين بروايتين في القائمة القصيرة وهما «قناع بلون السماء» للروائي الأسير باسم خندقجي الذي حول زنزانته منذ عام 2004 إلى مصنع للحكايات والشعر عن فلسطين وأهلها وتاريخها ونضالها، و«سماء القدس السابعة» لأسامة العيسة: روايتان تغوصان في تاريخ فلسطين فوق الأرض وتحتها، في التاريخ المطموس الذي يحاول المحتل محوه وقتله منذ النكبة إلى النكسة وحتى عربدة صواريخه ودباباته وجنوده وأذنابه من القادة الغربيين فوق أشلاء غزة اليوم، والتاريخ المكتوب باللحم الحي والمزنر بالشوك في أجفان ساكني القدس ومعاناتهم في كنف عدو متغطرس ومسلح بكل عدة الاحتلال والهيمنة، لكن ما من سبيل أمام هؤلاء المكلومين بأوطانهم وبيوتهم إلا أن يتمسكوا بالحكاية والتواريخ الصغيرة التي هي أشبه ببذور صغيرة يسقيها أبناؤهم كل يوم ويحرسونها من الضياع، وأن يفعلوا ما يفعله السجناء (والأدباء) والعاطلون من العمل: أن يربوا الأمل
أحمد مرسي في عوالم الباشوات والصراع الطبقي
ما هو الخيط الجامع بين ولد بدوي، وسيدة إنكليزية وضابط متقاعد مع سمسار للخيول في مكان واحد؟ يربط أحمد مرسي مصائر هذه الشخصيات بعضها بالآخر في «مقامرة على شرف الليدي ميتسي» (دار دَوّن ــــ القاهرة)، عمله الروائي الثالث بعد «ما تبقى من الشمس» (2020) و«مكتوب» (2021) ليخرج علينا برواية تخطف الأنفاس يتداخل فيها الصراع الطبقي والتاريخ بالأمل والشغف والخيبة: في ليلة استثنائية، يجد الفتى الفقير «فوزان الطحاوي» نفسه مكرهاً على خوض سباق للخيول في أكبر ميدان في مصر، حيث يجتمع الملوك والبكوات من أجل تحقيق أمنيات ثلاث غرباء: يتكشف السرد بالتدريج عن رواية سينمائية، تأخذنا إلى أروقة قصر مهيب لأحد الباشوات، وإلى ما يدور من أحلام تحت قبعات نساء فاتنات، وأجواء الإثارة في سباق الخيل ورجل يموت في القرية تاركاً رزمة من الأوراق الصفر للجرائد التي كتبت عن هذا السباق الشهير: تشتبك في الرواية حكايات أربع لكل منها طابعها الفريد.

عبده خليل ــــ «من دون عنوان» (1949 ـــ مجموعة «تيت ليفربول» ـ نقلاً عن صفحة «مثقف»)

يتقارب أبطالها في مصائرهم ونضالهم واستمتاعهم في صناعة أقدارهم بأيديهم لأنّ «الأمنيات التي لم تتحقق هي أصل عبودية كل إنسان» كما يقتبس المرسي من الكاتبة وعالمة اليوغا الهندية-الأميركية برمهنسا يوغانندا. تتعقد الحبكة في هذا النضال، وتتكشف عن صراعات طبقية وأحلام صعبة لكن مشروعة، وعالم داخلي للشخصيات يتأرجح بين الحب والرغبة ووخز الضمير، ثم الخوف من السقوط في الهاوية. لكن خيط أريان الجامع بين كل هذه العوالم، يتلخّص في كلمة واحدة: «الأمل». ينجح أحمد المرسي في ضخ الإثارة في الرواية حتى السطر الأخير، وفي جعل القارئ يعيش مع أبطال الحكاية لحظة بلحظة في ترقب وانتظار لما ستؤول إليه حفلة المقامرة الصغرى والكبرى ومصائر أصحابها في نهاية المطاف.
بوصوله إلى القائمة القصيرة لـ «بوكر»، يحجز الكاتب والروائي المصري الشاب (1992) مكاناً مميزاً له في الجيل الجديد للرواية المصرية، هو الحاصل على بكالوريوس الإعلام في جامعة القاهرة (قسم الإذاعة والتلفزيون) ويعمل كصحافي في جريدة «الوطن» ومعدّ للبرامج في قناة «دريم» ومحرّر في قناة «روتانا». وكانت روايته الأولى «ما تبقى من الشمس» (2020) قد فازت بالمركز الثاني من «جائزة ساويرس الثقافية» عن فئة الشباب.

عيسى ناصري: رواية التشويق والتشظّي
تعدّ «الفسيفسائي» (دار مسكيلياني ـــ تونس) الرواية الأولى لكاتبها المغربي الشاب عيسى ناصري التي يمكن اعتبارها رواية التشويق والتشظي والألغاز واستفزاز عقل القارئ عبر دمجها في طيات السرد بين روايات ثلاث تتطور وتتعقد في خطوط متوازية: الرواية الأولى «الفتى الموري» كتبَها «جواد الأطلسي» وتتحدث عن فترة الاحتلال الروماني للمغرب وانتقال فن صناعة الفسيفساء من المحتلين إلى المقاومين الموريين وأبنائهم، والثانية «ليالي وليلي» من تأليف الأميركية «أريادنا نويل» التي سلبت لبّها قطعة فسيفساء مفقودة وأخذ بقلبها هيامٌ بفتى يدعى «جواد»، والثالثة عبارة عن مذكّراتٍ بعنوان «باخوس في العيادة» كتبتها الطبيبة النفسية «نوال الهناوي» حول مرضاها وعوالمهم التي تبدو كفسيفساء تاريخية وثقافية تشبه في تفاصيلها المعقّدة إلى حد ما مذكرات فرويد عن مرضاه. أما عن الفضاء المكاني والزمني للرواية، فينثر ناصري قطع الروايات الثلاث على أرض مدينة «وليلي الأثرية»، وبطريقة الترجيع والتقديم السينمائيين يتوزع الزمن بين البعيد (القرن الثاني) والقريب نسبياً (تسعينيات القرن الماضي)، ليفرض سؤالان مهمان نفسهما حول الرواية: كيف سيردم الروائي الهوة الزمنية التي تقارب ثمانية عشر قرناً بين وقائع السرد؟ وكيف سيمسك بخيوط اللعبة بين الروايات الثلاث في خيط لاقط يحميها من الترهّل والتشتّت؟ الفسيفساء الرومانية هي الجسر الذي اعتمده ناصري بذكاء لردم هوة الزمان بالفن والاستيتيقا. أما خيط أريان اللاقط والجامع بين الروايات الثلاث، فسيضعه بين يدي «تُهامي الاسماعيلي»، وهو كاتبٌ كان قد احترَف صَنعة الفسيفساء المغربية المعروفة بـ«الزّليج البلدي»، وهو الذي ستكون رواية «الفسيفسائي» (دار مسكيلياني) على يديه بمثابة تركيب دقيق (Synthèse) من الروايات الثلاث وتوليفة فنية وأدبية هي أشبه بتركيب قطعة فسيفساء كبيرة من قطع أصغر.
ليست «الفسيفسائي» رواية حرفية جمالية ولا رواية بوليسية ولو استعارت الكثير من تراكيبها من هذين العالمين، إذ يفخّخها ناصري بأسئلة معقّدة عن الاضطهاد وقبول الآخر المختلف وأسئلة ذكية التقطها الروائي التونسي عيسى جابلي الذي قدم للرواية وكتب على غلافها الخلفي: «من أين تنهض الحرية؟ من الذاكرة أم من الإرادة أم من تزاوجهما معاً؟ ومن منهما ينهض يحدد الآخَر وينحته، الفن أم الوجود، أليس ما يبقى من هذه الحياة قطعة فسيفساء تقولها وتسلّم الباقي إلى النسيان؟ وما النسيان إن لم يكن قطعة فسيفسائك أيها القارئ؟».

باسم خندقجي «يضع» قناع المحتلّ
«قناع بلون السماء» (دار الآداب ــــ بيروت) هي حكاية «نور» عالِمُ آثار يُقيم في مخيّم في رام الله، يجد ذات يوم هويّة زرقاء في جيب معطف قديم. تتخذ هذه الحادثة عند خندقجي منعطفاً سردياً يرتدي فيه البطل قناع المُحتل في محاولة لفهم وتفكيك الأيديولوجيا الصهيونية في تحوّل «نور» إلى «أور». تتصاعد الحبكة في انضمامه إلى بعثة تنقيب في إحدى المستوطنات، تتجلى فلسطين المطمورة تحت التربة بكلِّ تاريخها الحقيقي والمناقض لأوهام الصهيونية وأكاذيبها الملفقة. يدخل خندقجي في روايته الجديدة «قناع بلون السماء» (الآداب) حقل ألغام كبير في السياسة والتاريخ والجغرافيا، بين الهوية الأصلية والهوية الزرقاء و«التصريح» بدخول الإنسان إلى وطنه ومسقط رأسه وأرض أجداده، بين السرديّة الأصليّة المهمّشة والسرديّة المزيّفة السائدة، ويعرّج على كل مفردات القاموس الفلسطيني الحديث والقديم في روايته. فنراه يقدم رِجلاً في أزقة المخيم ويؤخّر أخرى في التاريخ الروحاني والغنوصي القديم لفلسطين: المخيم الذي تطبق عليه أزقته، يقول الراوي إنه لا يحمل معنى إلا عندما ترتكب فيه المجزرة ليصبح اسماً من أسماء المآسي في تاريخ الإنسانية مثل تل الزعتر وصبرا وشاتيلا والشاطئ وغيرها، ثم يقيم خندقجي مقارنة ذكية تفرق بين هذه المخيمات والغيتو اليهودي في أوروبا في القدرة على أسطرة المأساة والإمعان في تخيلها، ولا تفوته الإشارة إلى بعض المراجع في هذا السياق مثل رواية «أولاد الغيتو» لإلياس خوري و«فانون والمخيلة ما بعد الاستعمارية» لنايجيل سي. غبسون. أما التاريخ الغنوصي لفلسطين في ما يخص مريم المجدلية، فلا يفوت خندقجي أن يشير إلى سطو الغرب المتصهين حتى على سيرة قدّيسي الشرق ومظلوميه ومصلوبيه وشهدائه: «لن أسمح لدان براون وكل الكؤوس المقدسة التي شُربت بصحة رواية «شيفرة دافنشي» أن يتطاولوا على المجدلية بترّهاتهم ويسرقوا سيرتها مني». خندقجي الذي يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2004 والمحكوم بثلاثة مؤبدات، كان قد أصدر من الزنزانة عدة مجموعات شعرية تشي عناوينها بمعاناة الإنسان الفلسطيني داخل سجون العدو مثل: «طقوس المرة الأولى» (2009)، و« أنفاس قصيدة ليلية» (2013) عن «الدار العربية للعلوم» (بيروت)، وخمس روايات: «مسك الكفاية: ﺳﻴﺮﺓ سيدة ﺍﻟﻈﻼﻝ الحرة» (الدار العربية للعلوم، 2014) ، و«نرجس العزلة» (المكتبة الشعبية ناشرون، 2017) و«خسوف بدر الدين» (دار الآداب،2020) و«أنفاس امرأة مخذولة» (الدار الأهلية، 2020)، وروايته الأخيرة «قناع بلون السماء» الحاضرة بقوة على لائحة «البوكر» التي يتخطى فيها خندقجي تصنيفها في زاوية «أدب السجون». بذلك، يقلب للرواية الصهيونية المزيفة ظهر المجنّ وينقب في السردية الحقيقية لأصحاب الحق ويحاصر السجان والغرب الرسمي الجبان المطبّل لأكاذيبه، بما يذكر بما قاله الثائر النيجيري كينسارو ويوا في فترة النضال العالم-ثالثي ضد الاستعمار: «السجن الحقيقي ليس السقف الذي ينضح ولا طنين الذباب في الزنزانة الرطبة اليائسة، بل هو الأكاذيب التي تُردّد على مسامعكم طوال جيل، الجُبن الذي يلبس قناع الطاعة، هذا هو يا أصدقائي ما يحول عالمنا الحرّ إلى سجن مظلم».

ريما بالي : حلب الحكاية المضرّجة بالدماء
خاتم سليمى (دار تنمية ـــ القاهرة) أيضاً رواية التاريخ الذي ينسدل كبساط مضرّج بالورد والدم، لكن هذه المرة على الجغرافيا السوريّة، وتحديداً مدينة حلب التي تجمع مصائر وأقدار الشخصيات الثلاث: الشخصية الأولى هو الشاب الإسباني لوكاس المولود في مدينة سانتاندير الشمالية لأسرة ميسورة نسبياً، لأب طبيب للأطفال وأم يهودية من مدينة توليدو يرث عنها شغفه باللوحات والتحف وذكريات طرد اليهود من الأندلس في حقبة محاكم التفتيش. يجد لوكاس ضالته في مهنة التصوير التي يبرع فيها لينتقل إلى توليدو ويشتري قصراً صغيراً، ثم تتغير حياته بالكامل حين يهم بتعليق سجادة صغيرة كان قد اشتراها منذ عشر سنوات من حلب في رحلة عمل يلتقي فيها بالشخصية الثانية، سلمى، صاحبة دكان الأثريات والتحف الذي اشترى منه تلك السجادة، وصاحبة ذلك الخاتم الجميل الذي لم يكن يفارق سبابتها، تخبر لوكاس عن عالم سحري متصل بنقوش السجادة وطقوس مرتبطة بالشموع لاستقبال حلم غريب محمل برسالة مشفرة. أما سلمى، واسمها الحقيقي سيلين، فمصابة بلوثة التاريخ ومغرمة بكل ما يمت بصلة إلى حلب من تاريخ وتقاليد وثقافة وفن، تتخذ حياتها منعطفاً مثيراً عندما تلتقي ذات ليلة بالشخصية الثالثة، المستشرق «سيلفيو كارلوني» أو «شمس الدين» تيمناً بشمس التبريزي، وهو الموسيقار الإيطالي الأصل الذي ترك بلاده ليستقر في حلب مؤسساً فرقةً موسيقيةً تقدم حفلات التراث الحلبي الأصيل والألحان الصوفية في منزل هو أشبه بقصر أثري اشتراه في حي «باب قنصرين» في قلب حلب القديمة: تنجح الروائية السورية ريما بالي (1969) المولودة في حلب والمقيمة حالياً في إسبانيا، في صهر قصص الأبطال الثلاثة بين أصوات طبول الحرب وخفقات القلوب الباحثة في السفر والمنفى والترحال عن مسببات الوجود والمعنى والحب، في تقنية سردية ذكية تستخدم خاتماً قديماً يدور بين أصابع الحكائين في شتى بقاع الأرض، ويستفيد من المخزون الحكائي الهائل لإحدى أقدم الحواضر في العالم التي تبدو في الرواية أشبه بغاوية مغدورة تئن تحت أنقاض الحرب والفرص الضائعة. فهل يعثر أبطال الرواية على بوصلة العشق والانعتاق على طريقة الصوفيين؟ وهل يكون خاتم سليمى السحري وحكاياته المشوقة كافياً لتحرير الأرواح الهائمة في فضاء المدينة، أم «هل على حلب أن تنتظر سليمان آخَر يُبعث من سباته الطويل، فيرمّم عصاه المأكولة ويستعيد سطوته على سائر المخلوقات المتناحرة، إذ يعثر على خاتمه المفقود». تسأل بالي التي سبق أن أصدرت روايتين بعنوان «ميلاجرو» (تعني المعجرة بالإسبانية ــــ الدار العربية للعلوم، 2016) و«غدي الأزرق» (دار الآداب، 2017).

رجاء عالم: مرثية للنساء المكّيات
من تاريخ مكة المكرمة مهّد الإسلام الأول هذه المرة، تضيف الكاتبة السعودية رجاء عالم لبِنة جديدة إلى مشروعها الروائي الذي يوثّق للبيئة الحجازية بأدق تفاصيلها، عبر الغوص في تاريخ عائلة «السردار» التي هي نموذج للعائلة المكية العريقة، وعبر حيوات أفرادها نرى حياة المدينة المقدسة، وعلى الخصوص تاريخ النساء المكيّات في الفترة ما بين 1945 حتى عام 2009، وهي الفترة التي شهدت تحولات كثيرة وجذرية في حياة أهالي تلك المدينة التي تعيش على وقع وجود الحرم فيها. رواية «باهَبَل» (دار التنوير ـــ تونس/ بيروت) أشبه بمرثية لأجيال من النساء في وجه سلطة الأب، الذي يتمثل بشكل فاقع في مصطفى السردار الذي هو أقرب إلى إله يمسك بمفاتيح المراقبة والمعاقبة، والثواب والعقاب. تمتد دوائر سلطته على الأبناء والأخوات والأحفاد، والكبار والصغار، ويستمد سطوته من التقاليد العريقة لأجداده الذين حكموا مكة ردحاً من الزمن: تستغل صاحبة «طوق الحمام» السرد لتوجه رسالة غاضبة في وجه العبودية المبطنة التي خضعت لها النسوة. عبودية تأتي تارة باسم الحب وباسم التكريم و«صون العرض»، لكنها تسحق وتطمس الهوية والوجود. إنها الرواية التي تنفض الغبار عن هذه الأصوات المطموسة «بين نورية وسكرية وحورية وعائلة السردار... كنت أشعر بأن هذه الحكاية لا تستقيم إلا بالتعبير عنهم بلغتهم المكية. كانت موسيقى اللهجة المكية تلحّ عليّ في أصداء تترجّع في قلبي وقلوب مكية رحلت لكنها باقية في كياني». تنبش صاحبة «ستر» بطنَ هذا التاريخ بصوت الفتى عباس (باهبل) الذي عاش قريباً من نساء عائلة السردار وقرر أن يكتب كتاب سيرتهنّ بحيث لا تسعى الرواية إلا إلى «مراجعة كتابهنّ هذا المطمور في الأدراج. قرأته. قد تبدو أنها حيوات من زمن منقرض، أو من كوكب آخر، لكن الآن هذا الصوت القديم يكتسي صوت العصر، لأنه جزء من تاريخ مسيرة المرأة في هذه البلاد». تضيف الروائية السعودية المخضرمة التي درست الأدب الإنكليزي في «جامعة الملك عبد العزيز» في جدة عملاً قوياً جديداً إلى «الريبرتوار» الخاص بها الذي عرفناه في «موقد الطير» (2002) و«ستر» (2005) و«طوق الحمام» (الحاصلة على جائزة «البوكر» عام 2011 مناصفة مع الكاتب المغربي محمد الأشعري عن روايته «القوس والفراشة») و«خاتم» (2012) وغيرها من الأعمال الروائية والمسرحية التي كرست صاحبتها كواحدة من أهم الأصوات الروائية على الساحة الخليجية وحتى العربية اليوم، وقد ترجمت بعض أعمالها إلى الإنكليزية والإسبانية.

أسامة العيسة في حارات القدس القديمة
«سماء القدس السابعة» (منشورات المتوسط ـــ ميلانو) رواية القدس في سبعينيات القرن الماضي وقد ضمها العدو إلى كيانه الغاصب بعد نكسة 1967، وهي تتعرض للمرة الثانية خلال عشرين عاماً إلى ما يشبه المجاعة، وتحاول لملمة جراحها واحتواء صدمة خضوعها للمحتل الذي بات يغرس أظفاره كل يوم في لحمها: من كاميرا تلتقط أدق التفاصيل وتتمثل بعينيّ الطفل كافل ووالده الشيوعي الذي أُسر في أحد الاشتباكات مع العدو الإسرائيلي، بحيث تكر سبحة القصص «الصغيرة» عن القدس وحاراتها وشوارعها وأهلها، من «السبع» الذي «طربل» (أصيب بالعجز الجنسي) ومعاناته مع زوجتيه والمجتمع الضيق من حوله، إذ يختلط العجز الجنسي بالنميمة والسخرية والعدوانية، مروراً بقصص الشيخ نعيم الشيخ نعيم الذي يحفظ تاريخ القدس وما حولها عن ظهر قلب كقصة قصر صالح جريس نجيب المشيد قبالة مستوطنة تلبيوت، والشيخ عبد رب النبي الذي «يفتح الله على واحد مثله، من أحباب الله، أبواب الطلاسم المغلقة»، وليس انتهاء بالعلاقات المعقدة مع اليهود وما يستتبعها من تصدعات أسرية كطلاق والدة الراوي بعد شكوك بعلاقتها بـ «رامي اليهودي»: ينطلق الروائي الفلسطيني أسامة العيسة (1963) ابن مخيم الدهيشة من هذه «التواريخ الصغيرة» لينسج على امتداد 700 صفحة تقريباً رواية هائلة تحتفي بالمكان وشخوصه، «بمدينة نصية وقدرية، ولكنها أيضاً مراجعة للمسلّمات والشعارات وحتى للعمل الفدائي المبكر، الذي لم يكن، رغم فداحة التضحيات وسموّها، والمرجعيات الثقافية للمناضلين، ليفضي إلى انعتاق المدينة بحجرها وبشرها، وعن الإدراك المبكر أن القدس، المحاصرة بالأغاني الحماسية، والشعارات الجماهيرية، والتصريحات الرسمية، ليست هي قدس الناس الذين كان عليهم دفع الثمن دائماً، وليست هي القدس الدينية التي حاصرت نفسها في نحو كلم مربع داخل السور لقرون، رغم معاناتها من جراح لن تندمل». «سماء القدس السابعة» (المتوسط) هي الرواية المستعصية على المحتلين والأقرب إلى أفراح أهلها متعدّدي القوميات والإثنيات وأتراحهم وانتصاراتهم وهزائمهم الصغيرة والكبيرة وكيف تشقّ وردة الحياة جذورها بصمت واستعصاء في مدينة ينقلب فيها كل يوم الكتابُ على الأنبياء كما يقول الشاعر محمود درويش، ويكتب أهلها تواريخ قصصهم الصغيرة بملح دموعهم. وهي الرواية الفعلية الثالثة للعيسة بعد «مجانين بيت لحم» (مؤسسة نوفل) الفائزة بـ «جائزة الشيخ زايد للكتاب» عن فئة الآداب (2015)، و«الإنجيل المنحول لزانية المعبد» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021) إضافة إلى مؤلفات أخرى في القصة القصيرة والآثار وطبيعة فلسطين ومواد تسجيلية عن الثقافة والسياسة في فلسطين.