بعد حربٍ تركت ما تركته في النّفْس من فقْدٍ ومشاهدَ عُنفٍ ومشاعرَ خوفٍ، برزت موجةٌ شعريّةٌ جديدةٌ من بين شقوق الذّاكرة المُتعبة. امتازت هذه الموجة بحساسيتها العالية وسط مجتمعات لا ترغب ولا يُراد لها أن ترى سوى التكرار المقيت ذاته، ولا أن تحمل سوى مفردات الهوية القلقة ذاتها. خُلقَت هذه الموجة بفعل قصائد شاعرات على امتداد الجغرافية السورية، رأينَ في الشّعر وطناً آمناً، سماؤه الخيال حيث يستطعن التّحليق من دون قيد، وترابه الكلمة التي تمتد جذورها لتنمو وتكبر وتغدو قصيدةً. الشّاعرة والناقدة السورية رولا حسن تابعت هذه الموجة على مدار سنوات الحرب السوريّة. منذ عام 2016، عملت على توثيق حركتها لتكون النتيجة كتابها «الموجة الجديدة في الشعر السّوري: نصّ طازج وحساسية مختلفة... شاعرات سوريات» (دار كنعان ـــ دمشق). في مقدّمته، تنطلق من سؤال طرحه أدونيس في أحد الأيام: «ماذا يفعل الشّعر في مدن تزدهي بجدبها؟»، لتؤكّد حسن على أنّ تساؤل أدونيس اليوم، بات أكثر إلحاحاً وسط مدن تعج بالخراب والموت، وأخذت أسئلة أخرى تُزاحمه: «ماذا للشّعر أن يفعل في عالم غاب عنه اليقين؟ في زمنٍ سقطت فيه كلّ الأقنعة، وتساقطت كلّ المطلقات، مع تساقط الإمبراطوريات. في عالمٍ يشهد أعلى درجات التّقدّم العلمي، وأعلى موجات الديموقراطية، لكنّه في المقابل يُنتج أعنف أشكال التّعصب، والإلغاء الاعتقادي، العرقيّ، وأبشع أنواع التكفير، ويتفنّن في أساليب الموت والتصفية، ويُنتج أكثر أشكال الهيمنة حداثة. ماذا يفعل الشّاعر؟». تنطلق حسن من هذه التّساؤلات لترصد تجربة شاعر الموجة الجديدة، الذي تراه أنّه يؤمن بالسؤال أكثر من الجواب، يؤمن بالشّك، والبحث الذي ينتج منه السّؤال بوصفه سرّ الإبداع المتجدّد، فيمزج التفاؤل بالاستفهام، والإيقاع باللاإيقاع.


تنتقل رولا حسن بعد ذلك للتحدّث عن دور الفعاليات الثقافية والأدبية الخاصّة التي ظهرت بعد الحرب، واكتظّت بها مقاهي دمشق القديمة، في رسم ملامح الحركة الشعرية السّوريّة الجديدة، التي تأخّرت عن نظيراتها العربيّة، إذ لم يكن الاعتراف بالشّاعر في سوريا قبل الحرب إلّا عبر المنابر الحكومية، ووزارة الثقافة، عبر منشورات ورقية وصفحات ثقافية في الجرائد اليوميّة، معروفة بمجملها بآلية عملها البائسة، التي لم تعمل إلّا على تكريس المكرّس، وتكرار المُكرّر. كانت هذه الفعاليات والتّجمعات الثّقافية، على قلّتها، وضعف إمكاناتها الماديّة، لتحتفي بالشّعراء الجُدد، ولتكون شاهداً على أنّ الشّعر مثّل الظاهرة الأبرز في المشهد الثقافي السوريّ بعد الحرب. وضاعفت من بروز ملامح هذه الظاهرة صفحات التواصل الاجتماعي، التي ازدحمت بالنصوص الجديدة، ووجدت عبرها منبراً حُرّاً، وجمهوراً خاصّاً، وأفردت مساحةً للقارئ ليتفاعل مع النص، وبالتالي ليكون شريكاً عبر ما يكتبه من تعليقٍ على النص، سواء سلباً أم إيجاباً. تُشير حسن بعد ذلك في صفحةٍ كاملةٍ من كتابها، إلى موقع الأيقونات السوريّة الممثّل بالشّاعر والفنان أحمد إسكندر سليمان الذي واكب شاعرات هذه الموجة عبر نشر قصائدهنّ على موقعه الإلكتروني. كان في كثير من الأحيان البوصلة التي اهتدت حسن عبرها إلى أسماء شاعرات ونصوصهنّ، لتبدأ بعد ذلك بالعمل الجديّ على أرشفة تاريخ هذه الموجة عبر كتابها، الذي ورد فيه: «في الأيقونات السّوريّة، حاول سليمان جاهداً أن يؤكد على المُنجز الثقافي والفنيّ السّوري في مستوياته العالمية والتجريبية، من دون الانجرار إلى الانفعال أو الابتذال الذي يمكن أن تُحدثه ظروف الحرب بشكل عام ودائماً. اقترحت الأيقونات أسماء جديدة على المستوى الشعري، وأرى أنّها الأكثر ألقاً في المشهد السّوري اليوم. كانت الصفحة وما زالت مفتوحة على التجارب الجديدة، من دون الالتفات إلى نكران بعض أصحاب التجارب غالباً بنزعات جهوريّة، تُنتجها الحروب الأهلية دوماً، وترى فيها نزوعاً شعريّاً لا نراه، والكلام يعود إليه».
بعد مقدمتها الوافية لتصوير كيفية ولادة هذه الموجة، تنتقل رولا حسن إلى استعراض تجربة ست وعشرين شاعرةً، ينتمين إلى أجيال مختلفة ابتداءً من أواخر السّتينيات حتّى منتصف التسعينيات، ومن مدن سوريّة مختلفة، جاءت أسماؤهنّ على التوالي كما وردت في الكتاب: أريج حسن، بشرى البشوات، بسمة شيخو، خلود شرف، أفين حمو، ديمة حسون، راما وهبة، رشا حبال، رماح بوبو، صبا قاسم، عبير سليمان، عبير نصر، ليزا خضر، منار شلهوب، مناهل السهوي، ميس الريم قرفول، راما عرفات، شروق حمود، نورا علي، شذا خليل، نصيرة عيسى، نور نصرة، مريم الأحمد، فاطما خضر، سوسن الغزالي ونسرين الخوري.
تجارب نسائية تمتدّ من أواخر الستينيات حتى منتصف التسعينيات


القاسم المشترك بينهنّ هو قصيدة النّثر التي رأينَ فيها وطناً جديداً، فلا الوطن ظلّ وطناً، ولا بلاد اللجوء استطاعت أن تكون وطناً. تُقدّم حسن أسماء الشاعرات على التّوالي، تُرافق كلَّ اسمٍ دراسةٌ منفصلةٌ تحكي فيها عن تجربة الشاعرة، إذ تنفرد كلّ شاعرة ـ وفقاً لحسن ـ برؤيةٍ خاصّةٍ في بناء قصيدتها، وبلغةٍ خاصّةٍ تميّزها، وبحساسيةٍ منفردةٍ في التقاط الجمال وسط عالمٍ يضجّ بالقباحة؛ ثمّ تقدّم المؤلفة قصيدةً طويلةً أو ثلاث قصائدَ قصيرةٍ لهذه الشّاعرة.
تعجُّ معظم القصائد بمفردات الحرب، وتتميّز على اختلافها باعتماد السرد لبناء قصيدةٍ تُهيمن عليها ذات الشاعرة المُنكسرة والحزينة، التي ترى عبرها العالم، وتصفه، وتحكي عن علاقتها الهزيلة به، بعدما غرق في التعصب والتطرف والطائفية والإقصاء والقتل والأمراض في زمنٍ شهد أعلى درجات التقدّم العلمي، وأحدَث موجات الديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان وحتى الحيوان.