يأخذنا رامي طويل بفلسفةٍ سوداءَ عبر مجموعته القصصية «امرأةٌ عند النافذة» (دار السّاقي ـ 2023). عشرون قصّة لاختبار الموت المجازيّ أحياناً، والحقيقيّ غالباً، بطريقةٍ سرديّةٍ غير معقدّةٍ يغلب عليها عنصر المفاجأة، تسودها تفاصيل إرهاقِ حياةٍ يوميّةٍ، تنمّ عن ثقافة القاصّ بحياة الشارع السوري التي ينتمي إليها. هنا تدور معظم أحداث مجموعته المُشبعة بالتّعب والسّعي المُجهَد إلى تأمين لقمة العيش وسط سنوات حربٍ جرّدت الناس من أضعف مقومات العيش البسيط، وهوَت بالغالبية السّاحقة إلى خط الفقر والكآبة، أو بعبارةٍ أدقّ ما دونه.

في «البدين والنّحيف 2» التي اقتُبس عنوانها عن قصةٍ لأنطون تشيخوف (يحافظ طويل على احترام ملكية عنوان تشيخوف عبر إضافة رقم 2 إلى العنوان، وإظهار تأثر بطل القصّة عبد الله بأبطال قصّة تشيخوف)، يروي قصّة أستاذ مدرسةٍ فقير الحال، تزوّج مريم زميلته منذ أيام المدرسة الإعدادية، ليعيشا معاً حياةً غير ميسورةٍ. في أحد الأيام، يلتقيان مصادفةً بزميلهما ميلاد الذي كان أيام المدرسة حبيبَ مريم، وقد غدا اليوم مسؤولاً رفيع المستوى، لنكون بذلك بأسلوبٍ غير مباشرٍ أمام الفجوة الهائلة التي لم يردمها الزمن منذ تشيخوف/ وما قبله، وحتّى زمن رامي طويل: الفجوة بين الطبقة التي يقتل فحشُ ثرائها إنسانيتَها، والطبقة الفقيرة التي يقتلها القلقُ مجازياً فتحيا على أوهامٍ وبطولاتٍ دراميّةٍ. عبر هذا اللقاء، تتحقّق أمنيةُ عبد الله بأن يعيش أجواء روايات تشيخوف في علاقته مع ميلاد، ويودي ثأر الكرامة المعنوي بعبد الله إلى الموت، ويستعيد ميلاد بسلطته وماله مريم التي لا حول لها ولا قوّة.
أمّا في حكاية «النافذة»، فيصوّر لنا طويل رجلاً يراقب من خلف نافذته كيف تتسلّل الحياة إلى مدينةٍ عاش فيها حياته كلّها. مدينةٌ يحفظ منازلها وأزقتها ووجوه أبنائها، مصوراً تفاصيل يوميّةٍ تلبسُها، تمنحها الأمان رغم رتابتها. ينتهي هذا الأمان لحظة يدخل فيها مسلّحون بمدرعاتهم وقذائفهم وحقدهم المدينة، مشوّهين في لحظات معالم وتفاصيل رسمتها سنونٌ كاملةٌ. بدايةً، يبدو السّرد للقارئ عاديّاً متكرراً، ليظهر عنصر المفاجأة عندما يلمح الرجل قنّاصاً يصوّب بندقيته صوبه، فيمسح بطريقةٍ هستيرية نافذةً قد رسمها بقطعة طبشورٍ على جدار زنزانته، أراد بها أن تكون نافذةً مُطلّة على الحياة، فاخترقتها ذكريات الحرب بهمجيتها. يبتعد عنها لتختفي معها ملامح مدينته وأصوات الرّصاص ورائحة الدم، متكوّماً فوق بطانيته القذرة، مذعوراً ومُستسلماً لأمانٍ أبديٍّ بين جدران زنزانته التي احتضنته لسنواتٍ طويلةٍ إثر اعتقاله. بذلك ينجح طويل في تصويرِ الذاكرة التي تشوّهها حروبٌ لا يهمّ فيها رأيك أو انتماؤك السياسيّ، ما دمت الحلقة الأضعف.
عشرون قصّة لاختبار الموت المجازيّ أحياناً والحقيقيّ غالباً


اختار القاصّ «امرأة عند النافذة» عنواناً لمجموعته القصصية، وهو في الأصل عنوان لوحةٍ لسلفادور دالي، مُشيراً إلى ذلك في القصة السّابعة عشرة، ضمن قصّة حملت العنوان نفسه: «إنّها لوحة «امرأة عند النافذة» لسلفادور دالي، وهي نسخةٌ مزوّرةٌ منها، غير أنّها مزوّرةٌ بإتقانٍ جعله لا يتردّد في دفع ثمنها غالياً في ذلك الوقت لتكون رفيقته الدائمة لخمسين عاماً بدت له في هذه اللحظة طويلة جداً. نهض مذعوراً غير مصدّقٍ ما تراه عيناه. لقد اختفت المرأة من اللوحة». عبر هذه القصّة، يروي لنا بطريقةٍ سورياليةٍ حكاية رجل عشق لوحة فنان وحاكَ حولها حكايات رواها لأصدقائه على مدار سنواتٍ، خالف فيها آراء النّقاد، ليُنهي طويل القصة بواقعيةٍ مفرطةٍ مملوءةٍ بعاطفة حفيدة أحبّت أن تُحيل تخيلات جدّها إلى واقعٍ.
تسود السوريالية العديد من قصص المجموعة مثل: «الموتى يعودون»، «الحاجز»، «جنديّ»، «سماء متناثرة»، «المقهى»، «سنضحك»؛ بينما تسود الواقعية قصصاً أخرى تكاد من فرط قسوتها أو سخريتها أحياناً تبدو أقرب إلى السوريالية، مثل: «الكلب بارون»، «رتوش»، «رثاء»، «السّتارة»، «الجدار»، «مراسل». في قصص أخرى، يبدأ طويل بواقعيةٍ مفرطةٍ، عن طريق سرد أحداثٍ تبدو عاديّةً ليُنهيها بسورياليةٍ مدهشةٍ، مثل: «القطار»، «مانيكان»، «المتحف»، «شجرة الأطفال». وما يجمع بين مُجمل هذه القصص، أنّك سواء كنتَ غنيّاً أم فقيراً، جنديّاً أم مدنيّاً، وحيداً أم مُحاطاً بعائلةٍ، أنجبت أم لم تُنجب، امرأةً أم رجلاً، فالحقيقة المطلقة التي تكاد تكون الوحيدة هي حقيقة الموت. ما دونها وهمٌ يقودك في طريقٍ يُسمّى الحياة قد يطول أو يقصر، قد يكون شديد الوعورة أو شديد الالتفافات، قد يمتلئ بالخيبة، بالحزن، بالشكوك، بالعجز أو بالأحلام...