إذا كان الطيب صالح (1929 -2009) عرض ما يمكن أن نسمّيه «السودان السعيد»، وسيرة الإنسان الطيّب في تقاليده وبيئته الضائعة بين التخلف والحداثة والإشكاليات «الناعمة» حينها في التعدد الإثني والثقافي قبل أن تنفجر حروب تقسيم ومذابح أهلية ودينية وعرقية، فإنّ عبد العزيز بركة ساكن جاء ليُكمل الشوط مشرّحاً السودان «الجديد»، بواقعه المرّ والمعقّد، وحكايات المهاجرين وسبايا الحرب والمهمّشين والواقعين بين مطرقة الموت في الحروب الأهلية وسندان الغرق في مراكب الهجرة. اسمه تردّد بقوة على الخريطة الروائية العربية من خلال «ثلاثية البلاد الكبيرة» (1999) التي جاءت بأسلوب أقرب إلى الواقعية السحرية في بلاد تسكنها الأسطورة و«يقطر سماءها الحكي فوق رؤوس الخلائق». خلف الحبكة طُرحت الأسئلة التي لا بد لأي روائي أصيل معالجتها في بيئته: هل بإمكاننا أن نأمل بمُتنفَّسٍ للحرية في محيطٍ يملؤه الاستبداد والقهر؟ اليوم، يُقيم صاحب «مسيح دارفور» في النمسا في ما يشبه المنفى الطوعيّ بعد مكابداته الكثيرة مع الرقابة التي منعت معظم رواياته
لطالما شغل سؤال جدّي بال كل المهتمّين بالحياة الثقافية السودانية، وخصوصاً في مجال الرواية والقصة القصيرة: هل من أدب سوداني بعد الطيب صالح (1929-2009)؟ ما هي الشروط الجبّارة التي يجب أن تمتلكها قصة أو رواية لتتجاوز «موسم الهجرة إلى الشمال»، الرواية الخالدة التي غدت معلماً لا يمكن تجاوزه في أدب ما بعد الاستعمار والعلاقة المعقّدة بين الشرق والغرب. لعلّ الإجابة على السؤال الصعب قد نجدها في اسم عبد العزيز بركة ساكن، المولود في مدينة «كسلا» عام 1963. نشأ وتلقّى تعليمه في مدينة الغضارف السودانية ومحيطها، ثم تابع دراسته الجامعية في مصر، فدرس إدارة الأعمال في «جامعة أسيوط»، ويُقيم حاليّاً في النمسا في ما يشبه المنفى الطوعيّ. ولئن عرض الطيب صالح في أعماله العديدة مثل «مريود» و«عرس الزين» و«دومة ود حامد» وجه ما يمكن أن نسمّيه «السودان السعيد»، وسيرة الإنسان السوداني الطيّب في تقاليده وبيئته الضائعة بين التخلف والحداثة والإشكاليات «الناعمة» حينها في التعدد الإثني والثقافي ــــ إشكاليات لم تكن قد تفجّرت بعد على شكل حروب وتقسيم ومذابح عرقية ودينية ــــ فإنّ بركة ساكن جاء ليكمل الشوط مشرّحاً السودان «الجديد»، بكل واقعه المرّ والمعقّد، وحكايات المهاجرين وسبايا الحرب والمهمّشين والواقعين بين مطرقة الموت في الحروب الأهلية وسندان الغرق في مراكب الهجرة قرب سواحل اليونان أو إيطاليا.


بدأ بركة ساكن يلفت الأنظار بحصوله على جائزة «بي. بي. سي» للقصة القصيرة على مستوى العالم العربي عام 1993 عن قصته: «امرأة من كمبو كديس»، وجائزة «قصص على الهواء» التي تنظمها «بي بي سي» بالتعاون مع مجلة العربي عن قصتيه: «موسيقى العظام» و«فيزياء اللون». ما لبث أن طرح اسمه بقوة على الخريطة الروائية السودانية بشكل خاص والعربية بشكل عام من خلال «ثلاثية البلاد الكبيرة» (1999) التي ضمّت قصصاً ثلاثاً (الطواحين، رماد الماء، زوج امرأة الرصاص)، بأسلوب هو أقرب إلى الواقعية السحرية في بلاد تسكنها الأسطورة و«يقطر سماءها الحكي فوق رؤوس الخلائق»، لنبصر خلف الحبكة تلك الأسئلة التي لا بد لأي روائي أصيل من أن يعالجها في بيئته ومجتمعه: هل بإمكاننا أن نأمل بمُتنفَّسٍ للحرية في محيطٍ يملؤه الاستبداد والقهر؟ هل يُمكن التأسيس لجمالٍ خاصٍ وسط القبح؟ وهل يُمكن للعلاقات الإنسانية أن تحفظ نقاءها من دون أن تُدنَّس بوقاحة الواقع؟ تروي الثلاثية حكاية نضالٍ ضدَّ السلطة المستبدة، على لسان امرأة تسكن عالماً أصرَّ على أن يضعها في قالب أصغر من أحلامها، حكاية القدِّيسة «سهير حسَّان» و«المختار» الذي كان مُتنفَّسها للحكي، ومعهما جوقة من المتمردين على قواعد بالية لحياة مصمّمة سلفاً ومحدودة الخيارات.
في «رماد الماء»، يأخذنا بركة ساكن في تقنية تصويرية سردية لنعايش ما كان من ويلات وفظائع التقاتل الأهلي بأحراش «جنوب السودان» وقراه ومدنه قبل انفصاله. تأخذنا المشهديَّة المتقنة لنشاهد ما حدث رأي العين، نُحمَّل بالحقائق صادمةً عارية، ولا ننخدع بالسلام الذي كان ثمنه «الموت البارد». مستكملاً رشّ الملح فوق جروح الحرب الأهلية في بلاده وتعرية فظائعها اليومية في انتصار البارود على الإنسان وفضح المعارك العبثيَّة التي يحشِد فيها أمراء الحرب خيرة الشباب تحت شعارات مبتَذَلة تتهافت بالكامل لحظة إطلاق النار في الميدان، يصدمنا بركة ساكن في إحدى أقوى رواياته «مسيح دارفور» (2011) التي تُرجمت إلى أكثر من لغة، إذ يخرج صوتٌ من دارفور يعلن أنه «مسيحٌ جديد» يأتي بالمعجزات، تسمِّيه الحكومة «النبي الكاذب» و«المسيح الدجّال» وترسل من أجل صَلبه أحد جلاوزتها، حيث تتوالى الأحداث حابسة للأنفاس في حبكة لا تغيب عنها مفردات التراث الشعبي السوداني الفريد.
وقبلها بسنتين (2009)، كان بركة ساكن قد أصدر عملاً آخر يضاهي «مسيح دارفور» قوة، هو «الجنقو مسامير الأرض». رواية تعالج قضية العمال الموسميين «الجَنْقُو» الذين تركوا قراهم الفقيرة بحثاً عن لقمة العيش وأملاً في العودة بثروة صغيرة تغيّر حياتهم. وفي سبيل ذلك، يقبلون أن تطحنهم تروس الحياة الخشنة مرات ومرات، في مزارع السكر وحقول السمسم والمصانع ذات الآلات الرثَّة، فتتغير أعمالهم وأسماؤهم خلال أشهر السنة؛ فهم «الجنقو» و«الفَحامين» و«كَاتَاكو» من دون أن يغيب عنهم الشقاء لحظة. تأخذنا كاميرا بركة ساكن برفقتهم إلى قرية «الحلة» حيث تُغرَق الآمال والهموم في أقداح الخمور الرخيصة وأدخنة الحشيش السيّئ التي يتشاركونها في الليالي الطويلة مع نساء بائسات يعرضن أجسادهن لقاء قروش قليلة، لتنتهي الرواية بالخيبة المرّة التي يبدد بها البائسون أحلامهم وتعبهم وأرزاقهم. فازت الرواية بـ «جائزة الطيب صالح» وقتها، لكن سرعان ما صدر قرار وزارة الثقافة السودانية بحظر الرواية ومنع تداولها. قبل ذلك، صودرت مجموعته «امرأة من كمبو كديس» عام 2005. وفي عام 2012، منعت السلطات كتبه في «معرض الخرطوم الدولي للكتاب»، ليردّ صاحب «زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة» بأنه «كاتب حسن النية وأخلاقيّ، بل داعية للسِّلْم والحرية، ولكن الرقيب لا يقرأني إلا بعكس ذلك».
جرعات شعرية تخترق السرد أشبه برقّة عصافير «على هامش الأرصفة»


الرواية التي ضمّنها بركة ساكن الكثير من سيرته الذاتية ويمكن أن نعثر في ثيمتها على بعض التقاطعات مع «موسم الهجرة إلى الشمال»، هي «الرجل الخراب» (2015): مستلهِماً رائعة إليوت «الأرض اليباب»، يصوّر لنا بركة ساكن الخراب الذي يصيب رجلاً بكامله، بل يتحوَّل هو نفسُه إلى خرابٍ يمشي على قدمين. إنه «درويش» السودانيُّ المصريُّ، الذي تلاحقه لعنة وصفه بـ«الأجنبي» أينما حلَّ: في بلد أمه، ثم في محطات هجرته، ثم في مستقَرِّه في النمسا، بينما يتصاعد صراع الهُويَّة في كلِّ خُطوة؛ صراع بين الماضي الضبابي والحاضر المضطرب، بين الموروث والمكتسَب، بين الحُلم والرؤيا والكابوس، بين الصورة الذاتية والانعكاسات في عيون الآخرين. رواية أخرى تمثلّ محطة أساسية في مسيرة بركة ساكن هي «مخيلة الخندريس» التي تتناول قضية المهمشين الذين لم يختاروا طوعاً ظروفهم السيئة، بل كأنها هي التي بحثت عنهم وفرضت عليهم القهر فرضاً: إنهم أطفال الشوارع المشردين في مدن السودان بلا أيِّ تطلُّعٍ إلا إلى مواصلة الحياة ليومٍ آخر، وحياتهم المهدورة بين طعام شحيح وملابس لا تكاد تستر عُرياناً وأجساد يكاد لا يكون لها حرمة، فالقهر على أنواعه ما بين اغتصاب وتعذيب وقتل والخمور الرخيصة وكل وهم يمكن أن يجدوا فيه خلاصاً محتملاً من البؤس هو اسم اللعبة في الرواية التي وقع عليها الاختيار عام 2013 لتُدرَّس لطلبة وطالبات المعهد العالي الفني في مدينة «سالفدن» النمسوية، بعد ترجمتها إلى الألمانية.
الروائي الذي بدأ حياته الأدبية بقصائد نثرية صغيرة لا يعوزها التوهّج والذكاء، ورغم الألم والشقاء والشوك الذي يعلق على أصابعنا حين نقرأ رواياته الموجعة، يفاجئنا في كثير من الأحيان بضوء لا نتوقّعه، وبجرعات شعرية تخترق السرد أشبه برقّة عصافير «على هامش الأرصفة»، كما هو عنوان إحدى مجموعاته القصصية: «داهمتني العاصفة الثلجية وأنا في طريقي إلى الملجأ، فارتبكَت العصافير الصغيرة الراكبة على كتفي ورأسي، وأخذت ترتجف من البرد. أخذتُ ألتقطها وأضعها داخل معطفي بين دفء جسدي، ودفء الصوف، إلى أن شُحنَ المكان بها تماماً، كانت سعيدة مرحة تزقزق فيَّ عندما انجلت العاصفة، أطلت الشمس بوجهها الذهبي الجميل من بين الغيم، صرخت العصافير بهجةً، مئات العصافير وهي تحلّق دفعة واحدة داخل معطفي الصوفي الدافئ، لتطير بي بعيداً، بعيداً نحو الشمس».