تعيش منذ سنوات خارج السودان، هل كان المنفى ضرورياً للكتابة؟المنفى ليس في كل الأحوال المنفى، قلبُك منفاكَ الأعظم. لا أحد يختار المنفى، إنما يُدفع في أتونه دفعاً. في الغالب، اخترت الهرب من سجن المنع والمصادرة، وظنون السلطويّين الذين يشرّحون كتابتي بواسطة سواطير الادعاء بأنهم يحمون القارئ من نزقي. وفي الحقيقة هم لا يحمون سوى عورات خطاباتهم السلطويّة التي تتخفى وراء الإسلام والعروبة وقيم لا يلتزمون بها. هي في الواقع لا تهمهم، يتعاملون معها كشعارات، لإرهاب الذين يختلفون معهم في الرأي والرؤية. المنفى، عطب الذاكرة والروح، غياب مربك عن المكان.

عانيت طويلاً من الرقابة، هل تشعر الآن بأنها من جهة ما ساعدتك على الانتشار؟
ــــ في السودان، صمّموا قانوناً، أطلقوا عليه تسمية قانون المصنّفات الأدبية والفنية، حتى لا يتركوا شيئاً للمصادفة. في هذا القانون، يحدد المشرع للكاتب بالتفصيل المملّ ماذا عليه أن يكتب، وما هي الموضوعات التي عليه تجنّبها، ثم لا عذر لم تم إنذاره بالقانون. ورجال الأمن يعرفون في كل شيء، ولديهم المقدرة على تفسير نيات ومقاصد الكاتب، ومعرفة تلك الحيل التي يُخفي عن طريقها فسقه وجنونه وصراخه البائس.


فالكاتب عندهم مخلوق محتال ويمتاز بطباع ثعالب الصحراء، وكما وصفني أحد رجال الأمن «أنت تغرد خارج السرب».
في عام 2005، صودرت مجموعتي القصصية «على هامش الأرصفة» غم أنها فازت بمنحة «الخرطوم عاصمة للثقافة العربية»، وطبعها المنظمون في وزارة الثقافة، ثم صادروها بأنفسهم من دون خجل. في عام 2009، فازت روايتي «الجنقو مسامير الأرض» بـ «جائزة الطيب صالح». وعندما نُشرت، صادرتها وزارة الثقافة أيضاً. وفي عام 2011، صودرت كل كتبي مع منعي من النشر والكتابة. في سلطنة عمان، منعت روايتي «سماهاني» من التوزيع، وصودرت من المعارض. في الكويت صادروا رواية «سماهاني» أيضاً من معرض الكتاب. وفي دولة عربية أخرى، رفضوا عرض كتابي «صلاة الجسد» في معرض الكتاب. كما ترى، أنا كاتب حسن النية، وأدعو للقيم الفاضلة والأخلاق النبيلة، نصيرٌ للسلم والحرية والمبادئ الإنسانية، لكن الرقيب لا يقرأني إلا عكس ذلك. في ظني، منع كتبي ليس سوى كيد سياسي، وليس لذلك صلة بادعاء أن كتابتي جارحة للحياء العام، أي إنّ بعض الخجولين في السودان لا يستطيعون معها صبراً.

الطيب صالح هو الشجرة التي تحجب غابة الأدب السوداني؟
أستاذنا الطيب صالح فتح لنا بوّابات نحو العالم يصعب الدخول عبرها، فهي ضيقة وتضيق يومياً. أعني أنّ تلك البوابة يحرسها شرط إبداع في مستوى تدوينه هو شخصياً. لذا لم يلج عبرها إلا قلّة قليلة من الكتّاب الشباب، بل الذين في جيله أيضاً. نحن نحبه ونخاف منه. نحبّه لأنّه علمنا المغامرة والشجاعة في أداء مهمة الإبداع. ونخاف منه خشية أن يغضب عندما تضيق علينا بواباته، فنتسلل عبر تشقّقات في الجدران أو نكسر تلك البوابات قليلاً. فأستاذنا الطيب صالح غابتنا التي تُخفي الشجيرات ذات الحجم الضئيل، لكنها لا تبخل عليها بالهواء وشعاع الشمس المشروطين، أما تلك النخلات التي تعشق الشمس، فستحتفي بها الغابة؛ كعادتها.

ما هو تأثير البيئة السودانية في أعمال عبد العزيز بركة ساكن؟
الكاتب ليس ابناً لشيء بعينه، فالكاتب الحقيقي لقيط. تنجبه ظروف مختلفة سفاحاً، ثم ينمو مثل عفن الخبز أو يرقات الذباب في قيح أزمنة وأمكنة يعرفها جيداً وتعرفه، على ذمة كارل ماركس: التعفّن مختبر الحياة. لدى الكاتب أدوات، وهي مشارطه التي يعمل فيها على جسد البيئات المختلفة، مثل البناء الماهر، الذي عندما يتوافر لديه الصخر والجير والوقت وسيدة تقدّر قيمة ما سيشيده، فإنه ينشئ برج بابل. ليست البيئة السودانية التي في أعمالي سوى تلك العينة التي وجدتها أمامي، لكنني كتبت عن الاحتلال والاستعباد العماني لجزيرة زنجبار في شرق أفريقيا، تاريخاً سردياً من الأسفل، كل ما هو مسكوت عنه، ولم يكن بمستطاع الشعب المستعبد في ذلك الوقت أن يسجله، أقصد رواية الإنسان. كتبت عن المنفي، وغير المنفي، والكاتب يستحضر الجنون والقبح والجمال في بيئات لا تخصّه، تلك فعائل المشرط.

كثيرون يشككون في مصداقية الجوائز العربية ما رأيك؟
إنها مفيدة جداً للكاتب والكاتبة، وأتمنى أن أحصل على بعضها، لأنّها تقدّم مبالغ مالية طائلة تسهل الحياة لأكثر من عامين، وقد توفر فواتير الدواء والكثير من الخبز لأشهر.

كيف ترى تجربة حكم الإخوان المسلمين في السودان؟ وهل تعتبرهم مسؤولين عن كل ما يحدث اليوم؟
كل ما هو بائس وقاتل ومميت وعفن ومتعفن في بلادنا، الآن سببه الإخوان المسلمون، انقلبوا على الديموقراطية، باضوا حكماً دكتاتورياً استمر 30 عاماً، قتلوا خلاله ما يقرب من نصف المليون من المواطنين الأبرياء، شردوا ثلاثة ملايين من أراضيهم في دارفور، سرقوا ثروات البلاد والعباد، أفسدوا كل مؤسسة من مؤسسات الدولة، وبعدما ثار الشعب عليهم، نهبوا ملايين الدولارات وهربوا بها إلى الخارج. الإخوان صنعوا مليشيات الجنجاويد المسلحة سيئة السمعة التي تستبيح السودان الآن: تغتصب النساء والأطفال، تحتل البيوت، نهبت السيارات وكل ما يمكن حمله، حرقت المكتبات الخاصة والعامة، احتلت المتاحف، هدمت البنية التحتية للدولة، احتلت المستشفيات والمرافق العامة، دمرت المنشآت العسكرية والمدنية، ارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور والخرطوم: الإخوان المسلمون في السودان شرّ يفرّخ شراً. الشيء الذي لا أجزم عليه، هو: هل يتعمّد الإخوان أفعال الشر أم أنه كان مصادفة، أقصد، أهو عنف بنيوي أم عنف مرحلة؟

هل تصنف نفسك ككاتب عربي أم أفريقي؟
في ظني، ليس هناك كاتباً يُنسب إلى بلاد ما، وليست هناك آداب أو فنون تنتمي إلى مكان بعينه، فالفن لا ينتمي إلا إلى منتجه، طالما كان فرداً. مثلاً مصطلح الأدب السوداني، أو اللبناني، أو الفرنسي أو الإنكليزي، أو الأميركي... هذه المصطلحات غير دقيقة، بل مربكة إلى حدّ كبير. عندما نقول الأدب الفرنسي، ماذا يعني ذلك بالضبط؟ هل هو الأدب المكتوب باللغة الفرنسية، أم الذي كتبه فرنسيون، أم الذي أُنتج في فرنسا؟ هل الكاتب ذو الأصول المغربية الذي يكتب بالفرنسية، ينسب أدبه لفرنسا أم للمغرب، ولماذا؟ وهكذا، بالتالي، يمكن تصنيفي بصورة بسيطة ومعقولة: كاتب من السودان يكتب باللغة العربية والإنكليزية ويعيش في مناف عدة.

عملت في مؤسسات دولية توفر لك دخلاً وفيراً، لكنك يبدو أنك فضلت الفقر والملاجئ لماذا؟
يحضرني منسوب للروائي والشاعر الأميركي المتمرد تشارلز بوكوفسكي، عندما قرر التخلّي عن كل الوظائف من أجل الكتابة. كتب في رسالة مؤرخة عام 1969 لصديقه كارل فيسنر يقول فيها: «لديّ خياران، إما أن أبقى في وظيفتي في مكتب البريد وأُصاب بالجنون، أو أن أستمر في الكتابة وأموت جوعاً، وقد قررتُ أن أموت جوعاً». فوضعية الكاتب، مثل وضعية البطل الإشكالي في السرد، يجد نفسه متورطاً، بين خيارات عدمية، وثنائيات تصعب المفاضلة بينها، مثل الأسرة أم الكتابة، الخبز أم الشعر، السُلطة أم السجن، العقل أم الجنون، الوفاء أم الخيانة، الطمأنينة أم الجنون؛ التقوى أم الفسق... وهكذا، والكاتب الوفي لمشروعه هو الذي يختار الكلمات متجاوزاً إغراء كل ما هو قبلها، وعليه أن يتحمّل مسؤولية اختياره.

ما الذي يطغى أكثر على الأدب السوداني الثقافة العربية أم المناخ الأفريقي المتعدد من خلال مسيرتك الأدبية؟
معظم الأدب السوداني مكتوب باللغة العربية، وحتى تلك الروايات التي كتبت باللغة الإنكليزية مثل أعمال جمال محجوب وليلى أبو العلا، تخيّم عليها الأجواء نفسها لما هو مكتوب بالعربية، وذلك نتاج البيئة المكونة لمخيلة الكاتب. طبعاً، هناك استثناء شاسع عندما ننظر إلى أعمال الكاتب السوداني الكبير تابان لولي يونج أو فرانسيس دينق، التي كُتبت بالإنكليزية وتفرّدت بعوالمها الخاصة ببيئة أفريقية واضحة. لكن لا بد من ملاحظة مهمة، عندما يصبح الموضوع موضوع ثقافة، فليست هناك في السودان ثقافة واحدة، إنما ثقافات متعددة وفقاً للتكوينات الإثنية المتنوعة، التي تملك لغاتها الخاصة وعاداتها وتقاليدها المتباينة، بل حتى تنوعها العقائدي. فالكاتب ابن مخيلته. وتلك المخيلة انتقائية، بعضهم يتمرّد على ثقافاته الخاصة، منفتحاً على ثقافة تهيمن على وعيه، أو أنه اختارها، ولكن يظل الإنسان بصورة عامة من دون هوية محددة، طالما أنّه كان على قيد الحياة، الهوية شيء سريع التغير والتشكيل والتأثر، ففي حالتي، أنا يومياً أكتسب هُوية وأفقد بعض الهُويات، حالي حال الآخرين، ولم يحدث أن كُنت بهُوية واحدة، قبل ميلادي، منذ أن كنت نطفة في رحم أمي، كنت نطفة متعددة الهُويات.

عدد كبير من السودانيين يحملون كتاب «مسيح دارفور» في احتجاجاتهم، هل تعتبر أن هذا العمل يلخّص منجزك الإبداعي؟
عندما نشرت هذا الكتاب، تعرّضت مباشرة لهجمة شرسة من قبل السُلطة السياسية الحاكمة، ومن قبل بعض المثقفين السلطويّين أيضاً، وُصف بأنه كتاب ضد إثنيات معينة وفي أحسن حالاته خيال جامح. ثم مرت 12 عاماً على تاريخ منعه، ليرى الناس بأم أعينهم ما كانوا يظنون أنه خيال بحت. هجمت قوات الجنجاويد التي هي مليشيات قبلية على العاصمة الحضرية للدولة، دمرت البُنية التحتية بصورة متعمدة واستولت على بيوت المواطنين واغتصبت النساء وقتلت من المدنيين ما يُقدّر بالآلاف، واستولت على مدينة الجنينة حاضرة سلطنة المساليت، ودمرت مدينة نيالا وحرقت جامعة زالنجي، بالإضافة إلى حرق المكتبات والمراكز الثقافية في الخرطوم والاحتلال والعبث بموجودات المتاحف القومية، وهذا يذكرنا بما فعله المغول ببغداد: محو ذاكرة الشعوب السودانية. وما زالت الحرب تدور ما بين الجيش الوطني ومليشيات الجنجاويد.
ومن سخريات القدر، أنّ هذه المليشيات نمت تحت رعاية الأخوان المسلمين وقياداتهم العسكرية، وكان يسمّيها الرئيس المخلوع عمر البشير «حمايتي». وعندما اعترضنا على وجودها وحذرنا من خطورتها، اعتبرتنا السلطة ومثقفوها أعداء. والآن، على الجيش السوداني، وعلى الإخوان المسلمين، قتالها، وهذا ما يسمى بالسخرية السودانية السياسية.

كثير من الروائيين يطرحون اليوم سؤال التجريب في الكتابة، هل تعتبر أن رواية «ولائم النخس» نموذج للتجريب في الكتابة الروائية؟
الرواية فن سردي جديد، وكل روائي أصيل هو مجرب، طالما كان في بحث محموم عن طرائق جديدة لكتابة الرواية. في ظني، أن نظرية الرواية لم تكتمل بعد، وهذه هي عظمة هذا الفن غير المستقر. مشروعي هو التجريب، ولا أتمنى أن أصل إلى حالة من الرضى.

عدت في أعمالك إلى الأساطير الأفريقية، هل تعتبر الأسطورة ملهماً أساسياً للروائي؟
على الروائي القيام بصنع الأسطورة، تلك المهمة التي أنجزتها مخيلة السرديين الشعبيين، الذين كانوا أيضاً أنبياء في مجتمعاتهم، علينا ألا نتخلى عن تلك الرسالة، بناء وصنع الأساطير، ليس إعادة تدويرها أو تحميلها وتفريغها، بل خلقها من العدم.

تحضر المرأة السودانية بكثافة في أعمالك، كيف ترى حضور المرأة اليوم في السودان رغم سنوات الأخوان المؤلمة؟
المرأة هي كل شيء، في أعمالي وخارجها. والمرأة هي عقدة الأخوان المسلمين والمتزمتين دينياً، هي الجن الذي لا تسعه جرة. وهي تلك الملائكة التي تملأ العالم غناءً وشعراً، وأطفالاً، ومعرفة، وموسيقى.