يقول الكاتب والشاعر البلغاري غيورغي غوسبودينوف في كتابه «فيزياء الحزن»: «بعض الكتب يجب تجهيزها بخيط أريادني». لذا حين تقرأ أعماله «فيزياء الحزن» و«غيوركي غوسبودينوف وقصص أخرى» (المترجمة إلى العربية عن «دار أثر» السعودية) و«ملجأ الزمن» التي حازت أخيراً «جائزة مان بوكر الدولية»، تتساءل: هل كتاباته تدخل في خانة الرواية أم أنها سيرة ذاتية تجمع بين سيرة الشخص وسيرة كل الأشياء التي لا سيرة لها في عمل تعجز عن تصنيفه؟ فلو قلتَ رواية ستَظلم فكرة كتابة الرواية، كما تعودت أن تقرأ، وإن قلت سيرة ذاتية خالصة، ستَظلم فكرة أنك تقرأ سيرة ذاتية بكل تفاصيلها الحقيقية والصادمة أيضاً. لا شك في أن ما يربط كتاباته هو ذلك الخيط الأريادني في الميثولوجيا اليونانية القديمة.

أعمال غيورغي غوسبودينوف تجمع حكايات منفتحة على العالم، ومنفتحة على حكايات تروي كل واحدة منها قصتها الخاصة، لكنك لا تقبض على نهايتها. في الدقيقة التي تشعر فيها أنك قبضت على فكرتها، تدخل دوامة حكي لا تنتهي، كأنك سقطت في بالوعة يصعب الخروج منها. كلما حاولت أن تتبع خيط الرواية، تبتلعك حكاية جديدة، لتجد نفسك في متاهة حكي لا تعرف الخروج منها بالطريقة ذاتها التي دخلتها، كأنك محكوم بخيط أريادني، وهذا يتطلب استحضار قدر كاف من الاستيعاب ليسهل عليك قراءة أفكار غوسبودينوف التي لا تقرأ الواقع كما هو، ولا تستند إلى الخيال وحده، بل كل ما في الأمر أنه يحاول شرح نظرته للحياة بهذا الشكل. من هنا تأتي فرادة هذا الكاتب الذي بإمكانه أن يكتب بالطريقة المتعارف عليها روائياً، لكنه اختار المجازفة في قول الأشياء كما يراها، وليس كما يتعيّن عليه أن يكتبها. لعلّ هذا النوع من الكتابات يحمل الكثير من الصدق، لأنه حقيقي، تلك الحقيقة التي لا تعبّر عن نفسها إلا هكذا، يقول في أحد مشاهد كتابه «فيزياء الحزن»: «الأغراض الأدبية الطاهرة لا تهمني كثيراً، فالرواية ليست آرية الأصل».
حين يحكي عن بعض تفاصيل الطفولة، كأنه يريد من خلالها استعادة الماضي، فعندما تحدث في «فيزياء الحزن» عن حكايات شهرزاد لشهريار في أشد لحظات حياتها خوفاً وضعفاً، يرى أن في «داخل الحكايات التي ترويها شهرزاد يتم شراء الحياة، من باب الحكايات نفسها». بهذا هو يريد التأكيد على أهمية الحكاية باعتبارها شكلاً من أشكال الخلاص بالنسبة إلى من يحكيها، وإلى من يسمعها أيضاً. لهذا يرى أنّ «الحكاية تحافظ على الذكرى في الفم الذي يسردها والأذن التي تسمعها».
نقرأ في أعماله ذلك الجانب الروحي، وذلك التقمّص الوجداني الذي نشعر بطريقة ما أنه يحيي لحظات من الذاكرة نعتقد أنها نسيت في غمرة الحياة.
خيط رفيع يجمع كتاباته ببعض كأنها بطريقة ما مكملة لبعض، أو ما استطاع الكاتب تجاوز أفكاره وهواجسه حول الحياة التي «يمكن روايتها وكأنها كتالوغ للهجر» على حد تعبيره في «فيزياء الحزن». وعن الموت الذي عبّر عنه بأنه «فقد وجهه»، يتساءل: «لا أعرف كم من الموت يغفو تحت اللغة». لذا يعود في كل مرة لربط علاقة الموت واللغة، قائلاً: «إذا كان الموت ظلاماً وغياب آخرين... فلطالما كنت ميتاً. ولطالما غشيني الظلام».
يمنح غوسبودينوف في أعماله الصوت لمن أطلق عليهم اسم «فلاسفة النهار». في «فيزياء الحزن»، يستحضر مشهداً من الطفولة حين كان يتجمع الشيوخ أمام البيوت والمحلات في ساحة قريته، يدخنون وينكشون الغبار بعصيهم، هؤلاء الذين لا أسماء ولا كتابة لهم على حد تعبيره، ثم يضيف بأن نمط «الحياة في هذه المناطق قصيرة والنهار خالد».
لا يمكن للقارئ أن يحصر أفكار غوسبودينوف في بلد الكاتب، بل يستطيع كل واحد منا تأليف سيناريو مشابه لمشهد غوسبودينوف هذا، وسيكون المشهد حقيقياً، لكنه يخلو من الصور الواضحة التي تظهر فيها الملامح بشكل دقيق. ومن هنا جاءت فكرة هذا العمل وكل أعماله التي لا يمكن أن تقرأها على أساس أنها روايات أو قصص عادية أو لربما سيرة ذاتية متشظية للكاتب نفسه.
في «فيزياء الحزن»، و«غيورغي غوسبودينوف وقصص أخرى»، و«ملجأ الزمن»، تشعر أن البطل هو الكاتب نفسه، يتّكئ في منعطفاته السردية على شخصية غاوستين الخيالية التي يبدو أنّه ابتكرها كي تكون وجهه الروائي. تشارك شخصية غاوستين أحياناً السرد مع الراوي، كأن الكاتب يبرر وجودها الأدبي في نصوصه.
كتاباته سيرة لكل الأشياء والكائنات التي تتفاعل مع البشر


حين قرأت «ملجأ الزمن»، عدت إلى قراءة «فيزياء الحزن» لأنه تعرض فيها لذكريات الطفولة التي تشكل حاضر الإنسان ومستقبله، فالرواية التي حصل بفضلها على «جائزة مان بوكر» لا تتحدث عن الذكريات بوصفها شيئاً يمكن العودة إليه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، بل تتجاوزها للتساؤل فيما لو فقد الإنسان ذاكرته عن طريق الزهايمر، أو عن طريق نمط عصرنا هذا. فهو استخدم غرفاً لمرضى الزهايمر، خصّص لكل عقد من الزمن غرفةً معينة تعيده إلى ذكريات الماضي، لكنه لم يتوقف عند هذه الفكرة، بل ابتكر طريقة أخرى للحديث عن إنسان اليوم، من خلال تهافت الأصحاء أيضاً على هذا النوع من العيادات رغبةً في العودة إلى ذكريات الماضي. هذه الفكرة بالذات تطرّق إليها في «فيزياء الحزن» عندما تحدث عن السياحة الافتراضية التي توفرها شركات خُصّصت لخدمة رجال الأعمال الأغنياء، فهم «يجهزونك بطقم الذكريات، بحيث تستطيع أن تصدق أنك فعلاً قمت برحلة».
لذا، فكتاباته تكمل بعضها، في تداخل رهيب كأنها متاهة بالفعل. لكنه في واقع الأمر لا يتحدث عن تاريخ بلغاريا وأوضاعها الاقتصادية وكل مل يمرّ به العالم، بل يحاول من خلال نصوصه الوثيقة الصلة ببعضها، أن يقارن بين إنسان الماضي وإنسان اليوم... هذا الإنسان الذي فقد أبسط خصوصياته. لذا احتمى بعضهم بملجأ الزمن كمنفذ لمواصلة الحياة في الحاضر.
كتاباته سيرة لكل الأشياء والكائنات التي تتفاعل مع البشر خلال فترة وجودهم على الأرض، سيرة الهدوء القادم من الطفولة، والضجيج الذي يشوّش الحاضر. وهكذا نقرأ في أعمال غوسبودينوف عن الذاكرة، الطفولة، الشيخوخة، الألم، الحكاية، الأدب والكتابة... عن الإنسان الذي يظل بالنسبة إليه «مقياس كل الكائنات، وما صنعته يداه ينبغي أن يكون باقياً، أن يستمر بالعيش بعد موت الإنسان».