«الكرسي معشوق فتّان/ عشّاقه بكل البلدان/ ينسف عقل الإنسان/ بيفرّق بين الإخوان/ بيذلّ من كان له شان/ ويغلي قدر الغليان/ اللي خلقه كان شيطان/ الشيطان خلق الكرسي...أكبر قائد لو جابوا/ عالكرسي بينسى صحابه/ بينسى أهله وحبابه/ وأبوه لو يعصر بابه/ ما بيشوف غير حجّاته/ مين راح يوصل اعتبار/ من يشرّف بجنابه/ ما دام راكب عالكرسي»: إنها قصائد سياسية بامتياز يأخذ فيها شاعر بيروت عمر الزعنّي، بالنقد السياسي اللاذع إلى مداه الأقصى وبالوسيلة الأمضى أي الشعر الشعبي الذي يسهل حفظه وترداده في الشوارع والمدارس والمقاهي فيصعب بالتالي الإمساك به من أجهزة الرقابة التي تترصد الكلمة المشاغبة والقصيدة التي تعبّر عن المزاج الشعبي: خمسون قصيدة «ممنوعة» جمعتها «دار نلسن» بالتعاون مع «نادي لكلّ الناس» وظهرت أخيراً (2022) في كتاب بعنوان «عمر الزعنّي – القصائد الممنوعة»: الشاعر الذي كان يدرُس قبيل الحرب العالمية الأولى تحت نور «فانوس البلدية» كان يدوّن باكراً على جدران المنزل البيروتي بعض ما كان يؤلفه من أشعار. بعد اطّلاع مبكر على الأدب الفرنسي، ولا سيما مسرحيات موليير في المدرسة التوفيقية ومن بعدها الكلّية الإسلامية، تفتّحت موهبة الفتى، الذي خدم ضابطاً في الجيش العثماني في فلسطين أثناء الحرب الأولى، على يد الشيخ رائف الفاخوري وهو أديب بيروتي توفّي عام 1954 اهتمّ بموهبة الزعنّي وأطلقه في ميدان القرّاديات والأهازيج المدرسية، فقدّم معه رواية تمثيلية على مسرح «الكريستال» في بيروت عنوانها «جابر عثرات الكرام». بدأ الزعني شغبه باسم مستعار هو «حُنين» تأثراً بشاعر مغنٍّ عاش في أواخر العصر الأموي هو حنين بن بلوغ الحيري. وبدأ الناس يتناقلون أغاني الزعنّي السياسية والاجتماعية الجريئة، لكنه لم يكن قد اشتهر كثيراً بعد. القصيدة الممنوعة الأولى للزعني كانت عام 1926 حين دُعي للغناء في حفلة أقامتها نقابة الصحافة على مسرح «الكريستال». لكنّ الداعين إلى الاحتفال، لم يتوقّعوا ما سيلقيه «حُنين» فوقف على الخشبة لينشد: «حاسب يا فرنك يا فرنك حاسب/ فهّمنا لوين بعدك ساحب/ ما خلّيت لا محبّ ولا صاحب/ أهلك جافوك والأجانب/ فرحانين شمتانين/ ناويين محوك ما بيناسب/ يا فرنك دخلك حاسب». أثارت القصيدة حفيظة السُلطة، فلاحقته قضائياً وتأديبياً وأوقفته وقرّرت نقله من مركز عمله في محاكم بيروت إلى محكمة البترون في محافظة لبنان الشمالي، وبدأت سلسلة المتاعب مع الرئيس اللبناني شارل دبّاس المنصّب من قبل سلطات الانتداب الفرنسي، فثارت ثائرة الزعني عليه في قالب يُستشف منه المديح ويضمر الهجاء السياسي المقذع: «يا هو يا ناس شو عمل الدبّاس/ لا باع بلادو ولا خسر الناس/ ست سبع سنين حكم مسكين/ لا خالف مذهب ولا غيّر دين/ ولا هدم شارع ولا بنى جامع/ ولا هد كنيسة ولا عيّن شمّاس/ مسكين الدبّاس/ خدم أوطانو بقدر إمكانو/ حسب ضميرو، حسب وجدانو/ عمل بأصلو ما ورث أهلو/ ولا طوّل إيدو ولا عيّن كنّاس/ مسكين الدبّاس/ كان كفّو نضيف وعايش عفيف/ بالنسبة لغيرو فضل شريف/ إن كان ما نفع ما زاد الوجع/ ما زاد البلا ولا الإفلاس/ مسكين الدبّاس/ في إيد من فوق بتمشّي الجوق/ إن خالفوها وما كان عالذوق/ بيطير الريّس، بينحلّ المجلس/ بتنهد أركانو من الأساس/ مسكين الدبّاس». بعدها، صعّد الزعني في وجه الرئيس الدبّاس، فأنشد الأغنية التي أطلقته وأذاعت صيته في لبنان والعالم العربي: «بدنا بحرية يا ريّس/ صافيين النيّة يا ريّس/ بزنود قوية يا ريّس/ أبداً ما تحلّس يا ريّس/ البحر جبال يا ريّس/ قطّاع حبال يا ريّس/ ما كان عالبال يا ريّس/ تتنصّب ريّس يا ريّس».
مرحلة الشغب الثانية على السلطة في حياة عمر الزعني كانت أول عهد الاستقلال. على الرغم من صداقته للرئيس بشارة الخوري، إلا أنّ شبهات الفساد التي كانت تحوم حول حاشية الشيخ بشارة وأقاربه، دفعت بالزعني وقد نضج شعره واشتد عود حبكته إلى مهاجمة الفساد والسرقات: «السرقة أكبر صنعه/ أوعى لصابيعك أوعى/ عالنزلة وعالطلعة/ العشرة بترجع سبعة/ ومطرح ما بتوقع وتطب/ شلا لوب». امتلأت بيروت بقصائد «موليير الشرق» الذي كان يستشرف وصول النظام الريعي القائم على الخدمات والزبائنية حصراً إلى مأزقه الكبير: «ما عاد في بهالايام شي كسدان/ حتى الشرف والضمير والوجدان/ على أونو على دويه على تريه/ بس قول وحط إيدك عالجزدان/ كل شي بينباع بهالايام». إلا إنّ القصيدة الشهيرة التي أنشدها الزعني منتقداً التجديد لرئاسة بشارة الخوري لم تمرّ مرور الكرام: «جدّد ولا تفزع/ خليه قاعد ومربّع/ بيضل أسلم من غيرو/ وأضمن للعهد وانفع/ لا تخاف إلا من الطفران/ والمحروم والجوعان/ بيضل بمالك طمعان/ أما المليان والشبعان/ من لقمة صغيرة بيشبع». سرعان ما انتشرت الأغنية التي تتبرم من الرئيس وبطانته كالنار في الهشيم، فأمر بشارة الخوري بسجن عمر الزعنّي مدة ستة أشهر وأودع سجن الرمل في بيروت ليقضي منها 40 يوماً ويخرج بعفو خاص. إلا أن فترة السجن لم تجفّف من قريحة الشاعر الذي ظلّ يشاغب على السلطة كأنه ينطق بلسان حالنا اليوم: «محسوبك أنا اسمي فلان/ من أحسن عيلة بلبنان/ طمعان بحب الإخوان/ ومرشّح نفسي نايب/ أول بند من الأربعين/ بخلّي السما تشتّي طحين/ والأرض تنبّع بنزين/ بلا رسوم وضرايب/ بس انتخبوني نايب».
في «عمر الزعنّي – القصائد الممنوعة»، نستشف عمر الزعني حاملاً روح شعب ومدينة لنقرأ على موشور قصائده الممنوعة تاريخ مرحلة صعبة من تشكّل لبنان الحديث، مؤرّخة بشعر وأغنيات مَن وُصف بأنّه العمود السادس لقلعة بعلبك بعد نعيمة وجبران ومطران وسعيد عقل والريحاني.