أظن أنه لا يجب تجاهل ما أوردته لنا المصادر العربية عن أهرام الجيزة الثلاثة وطابعها. فهذه المصادر نُقلت مباشرة عن مصادر قبطية قديمة. بذا، فالاستماع إليها ربما يساعدنا في فكّ بعض ألغاز هذه الأهرام. وتصرّ هذه المصادر على ربط أهرام الجيزة بملك يُدعى «سوريد» وابنه «هرجيب» الذي خلفه في الملك. وسوريد عند المقريزي هو من بنى على الأقل الهرمين الأكبرين: «سوريد هذا هو الذي بنى الهرمين العظيمين... ولما مات سوريد، دُفن في الهرم ومعه كنوزه، ويُقال: إنه كان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة وأنه ملك مائة سنة وتسعين سنة. فملك بعده ابنه هرجيب، وكان كأبيه... وملك بعده ابنه مناوس، ويقال: منقاوس، وكان كأبيه في الحكمة، إلا أنه كان جباراً فاسقاً سفاكاً للدماء» (المقريزي، خطط المقريزي).أما السيوطي، فيربط الهرم الأكبر (هرم خوفو) وحده بسوريد، في حين أنه يربط الهرم الأوسط (هرم خفرع)، بابنه هرجيب: «والقبط تزعم أنهما والهرم الملون قبور. فالهرم الشرقي [الهرم الأكبر] فيه سوريد الملك، وفي الهرم الغربي [هرم خفرع] أخوه هرجيب، والهرم الملون [هرم منقرع] فيه أفريبون ابن هرجيب» (السيوطي، حسن المحاضرة).


ويمكن القول بأن نص السيوطي يعطينا المعلومات التالية:
أولاً: أن الأهرام قبور، لكنها ليست قبور ملوك تاريخيين (خوفو، خفرع ومنقرع) كما يعتقد الاتجاه التقليدي، بل قبور ملوك ميثولوجيين ليس لهم ذكر في قوائم ملوك مصر الحقيقيين في المصادر الفرعونية التي نملكها.
ثانياً: أن سوريد دُفن في الهرم الأكبر، في حين أن ابنه هرجيب مرتبط بالهرم الأوسط، ويبدو أنه دفن فيه.
ثالثاً: أما هرم منقرع، وتسمية المصادر العربية باسم «الهرم الملوّن»، أو «الهرم المؤزر»، لأنه مؤزر في جزئه الأسفل بحجارة ملونة قادمة من أسوان كما يقال لنا، فلا يوضح لنا من الذي من الملوك الأسطوريين دُفن فيه.
وفي ما يخص الاسم سوريد، فلسنا نعرف أصله. لكن يبدو لي أنه يمكن حلّ لغز الاسم (هرجيب) بشكل ما. ولو تمكّنا من فهم هذا الاسم، فربما لوصلنا إلى حلّ لغز كبير من ألغاز الأهرام، أي لغز قبور من كانت هذه المنشآت المهيبة. والاسم هرجيب يرد عند المسعودي هكذا: هوجيف: «فأقام سوريد مائة سنة وسبع سنين... وتولى أمر الملك بعده ابنه هوجيف الملك فسار سيرة أبيه في العمارة والعدل والرقة والرأفة بالناس فأحبوه» (المسعودي، أخبار الزمان). ومن الواضح أن «هرجيب وهوجيف» تحريفان لاسم أصلي. ولديّ اقتراح بخصوص هذا الاسم الأصلي. يقول هذا الاقتراح بأن الاسم الأصلي هو «حورِماخت، حُرمَخيت»
(Hor-em-akhet) Horemakhet، وهو الاسم الذي يُطلق على تمثال أبي الهول المهيب في النصوص المصرية، ويعني: «حورس في الأفق». هذا الاسم تحول بعد تحريفات متعددة إلى «هرجيب» و«هوجيف» في المصادر العربية. ومن الواضح أن التحريف الأساسي كان في ضياع الميم. فبدل «حرمخيت»، صرنا مع «هرجيب»، أي مع «حرخيت» عملياً.
يؤيد هذا أن «حرمَخِيت» و«هرجيب» معاً مرتبطان بالهرم الأوسط (هرم خفرع). فهرجيب دُفن في هذا الهرم حسب المصادر العربية. أما حرمخيت، الذي هو أبو الهول، فمرتبط معمارياً بالهرم الثاني. فهما كتلة معمارية واحدة عند أغلب الباحثين.
لكنّ المشكلة أن لوح الجردة، أو لوح الإحصاء كما في، The Inventory Stele الذي نصبه الفرعون بسامتك الأول Psammtik I من الأسرة السادسة والعشرين (664-331 ق.م) يخبرنا أن هذا الفرعون رمّم معبد إيزيس وأبي الهول. ويصف نص اللوح إيزيس بأنها «سيدة الهرم». لكنه لا يحدد لنا أي هرم بوضوح. غير أنّ من الواضح أن الهرم الوحيد الذي يمكن لها أن تكون مرتبطة به هو الهرم الثاني. فكيف يمكن لهرجيب بن سوريد أن يكون مرتبطاً بهرم إيزيس الأنثى؟
والجواب كالتالي: هناك كثيرون يعتقدون بقوة أنّ أبا الهول تمثيل لأنوبيس الكلب ابن إيزيس. بالتالي، فليس غريباً أن يحوي هرم واحد الأم وابنها معاً. وانطلاقاً من هذا، يمكن الحكم بأن الهرم الأوسط، هرم خفرع، يضم روحين اثنتين: روح الأم إيزيس وروح ابنها أنوبيس- أبي الهول. أي أننا مع هرم مزدوج الطابع. يؤيد هذا بقوة أن الهرم الأوسط، هرم خفرع، هو الوحيد من الأهرام الثلاثة، الذي يملك بابين لا باباً واحداً. وهو يملك بابين لأن روحين تنامان فيه: روح إيزيس، وروح ابنها أبي الهول- أنوبيس.
أكثر من ذلك، فإن معبد أبي الهول، الذي يقع قرب تمثال أبي الهول، مزدوج الطابع أيضاً كما يخبرنا سليم حسن: «وفي المعبد كله، سوف يلاحظ أن كل أجزائه الهامة قد ضوعفت. مثلاً، لدينا مدخلان، وصفان من الغرف في الحائط الغربي، وممران خارجيان، إلخ» (سليم حسن، أبو الهول، النسخة الإنكليزية للكتاب، ص 29). وهو مزدوج الطابع لأنه يمثل أبا الهول وأمه إيزيس معاً. وكما رأينا في المقتبس، فإن سليم حسن يعتبر أن الازدواج والمضاعفة موجودان في المعبد لكي يتوافقا مع مفهوم الملك كملك لمصر العليا والسفلى. لكن هذا الاعتقاد غير سليم في رأيي. فلماذا فقط في أبي الهول والهرم يظهر الطابع المزدوج؟ لماذا لا يظهر في الهرم الأكبر مثلاً؟ ثم لماذا يكون الازدواج حين نكون مع أبي الهول- أنوبيس؟


الازدواج نابع من أن أبا الهول جزء من معمار الهرم الأوسط، هرم خفرع، الذي تسكن فيه إيزيس وابنها أبو الهول- أنوبيس. بذا، فمعبد أنوبيس هو معبده مع أمه. ومن هنا طابعه المزدوج.
وبما أن حرمخيت- أبو الهول هو ابن إيزيس، فهو بالضرورة ابن أوزيريس زوجها. لكن المصادر العربية تقول لنا إنه ابن سوريد، فكيف يصح هذا؟ والجواب: يبدو أن سوريد هو اسم آخر لأوزيريس في المصادر العربية. عليه، فالأب أوزيريس (أي سوريد) يقيم في الهرم الأكبر، هرم خوفو، وابنه حرمخيت- أبو الهول، أي هرجيب، يقيم في الهرم الأوسط، هرم خفرع. وهذا يعني أنّ الهرمين قبران لإلهين وليس قبرين لملكين تاريخيين. وبناءً على كل هذا، فالأهرام قبور ملوك- آلهة لا قبور ملوك بشريين.
على أي حال، فإن الصقر حورس يُدعى حورَختي Hor-akhty ويعني الاسم: حورس الأفق. ومن الواضح أن هذا الاسم على علاقة باسم أبي الهول (حرمخيت). وهو ما يعني أن لأبي الهول- أنوبيس علاقة ما بحورس. بل إن سليم حسن يقول لنا إنّ أبا الهول «يتماهى في بعض المناسبات مع حوس» (سليم حسن، أبو الهول، النسخة الإنكليزية، ص 59). وهذا منطقي فكلاهما ابنا أوزيريس. بذا فقد يكون الاسم «هرجيب» تحريفاً للصيغة المختصرة (حورختي) Hor-akhty التي حُذفت منها الميم.
يتبقّى لنا الهرم الملون- المؤزّر. فقبر من يكون هذا الهرم؟
وجوابي الذي كنت عرضته قبل سنوات طويلة هو أن أوزيريس له وجهان: وجه شاب ووجه شيخ. الوجه الشاب يمثله الهرم الأكبر، والوجه الشيخ المسنّ يمثله الهرم الملون. والحقيقة أن المصادر العربية تؤيد هذا الاستخلاص والاستخلاصات التي سبقته. فهي تقول لنا بأن روح الهرم الأوسط مؤنثة، أي أنه يمثل إيزيس، بينما روح الهرم الأكبر روح شاب أمرد، في حين أن روح الثالث الملوّن روح رجل مسنّ: «وحكى القبط في كتبهم أنّ روحانية الهرم الشماليّ [يقصد الهرم الكبر]، غلام أمرد أصفر اللون عريان في فمه أنياب كبار، وروحانية الهرم الجنوبيّ» (الهرم الأوسط) امرأة عريانة بادية الفرج حسناء في فمها أنياب كبار تستهوي الإنسان إذا رأته، وتضحك له حتى يدنو منها، فتسلبه عقله، وروحانية الهرم الملوّن [هرم منقرع] شيخ في يده مجمرة من مجامر الكنائس يبخر بها، وقد رأى غير واحد من الناس هذه الروحانيات مراراً، وهي تطوف حول الأهرام وقت القائلة، وعند غروب الشمس» (المقريزي، خطط المقريزي).
هذا النص يؤكد أن الهرم الأوسط ذو طابع أنثوي، وأن الهرمين الآخرين مذكرا الطابع: أحدهما شاب والآخر شيخ مسنّ. أوزيريس الشاب الأمرد يمثل النيل في اندفاعته الصيفية الفيضية، حين يرتفع ماؤه ويغطي الحقول. في حين أن أوزيريس الشيخ هو النيل في لحظة تراجع مائه، وتوقف فيضانه.
بناءً عليه، فالأهرام الثلاثة ميزان كوني. ميزان النيل فيضاً وانسحاباً وتراجعاً، وميزان اجتماعي يفصل بين الشاب والشيخ وبين الذكر والأنثى.
لكنّ هذا بالطبع لا يحل مسألة من هم الملوك الذين بنوا أهرام الجيزة الثلاثة، الذين هم بحسب التقليد الشائع: خوفو وخفرع ومنقرع.

* شاعر فلسطيني