أنا المستعجل الوحيد هنا. أجري، وأفتّت خبزاً يابساً في طريقي. ولعلّني أفتّته للطير أو للنمل. الحياة عبء ثقيل، لكن العدم أثقل من ذلك بكثير. وهذا ما يجعل الحياة ممكنة. الحياة أطروحة سلبية. أملأ فمي بالصمت، ثم أبُخّه على الكون كأنني أكوي قميصاً. وهذه استعارة. لا يمكن العيش من دون استعارات. الحياة استعارة، والموت شرحها.
أفتّت ذاكرتي في مقطوعات كي تلقطها الدجاجات. كي تقصفها المسيّرات.
«صيد في السماء» لياسمين ليتل (خزف حجري وحصى وطلاء ـ 2021)

أنا المستعجل الوحيد هنا. ولست ذاهباً إلى أي مكان. فقد سجّل المرزوقي «الأزمنة والأمكنة» كلها باسمه. وأنا عالة عليه. أمشي في كتابه، وأنفخ الاستعارات من فمي كأنني حيّة سامة.
آه، من أعطاني الحق في أن أسمّم صباحكم؟
ليس هناك ما يملأ الكفّ أبداً. ستظل العين فارغة، والكفّ فارغة.
■ ■ ■

أيلول في أواخره. يمشي ويده على جبينه كأنه نسي شيئاً. لا يعرف أنه نسيني مثل كيس على الرصيف.
اسمع يا أيلول، يا من ترتدي سترتك القديمة مقلوبة، أنا لا أُنسى أبداً. وكيف ينسى من كان الحجر في قبضته، والنجمة تحت لسانه. أعرف الخرافة عن فمك المحشو بالأوراق الذهبية. لكن ذهبك لا يهمني أبداً، فالفضة مذهبي.
ولولا أن أسراب طيور السمّان تعبر البحر المتوسط كله من أجلك، لكنت أطلقت عليك النار يا أيلول.
أيلول في أواخره: عود العنصل يصعد في السماء وتتفتّح فيه ألف زهرة، وآخر ثمار التين في فمي.
27/9/2021
■ ■ ■

أخَذَتنا النار بجديلتها، نحن المأخوذين. نحن الآخذون أيضاً. التقطنا أسماءنا من موائد رمضان. نبشناها من أعشاش الدبابير. لم يكن لأمهاتنا دخل في هذا ولا لآبائنا. فقد اخترعنا ذواتنا بأنفسنا. كل واحد حمل ذاته على ظهره مثل جمل يحمل بطيخاً. لذلك فذواتنا تتكسر كالبطيخ.
عدّدي يا أخواتنا خطايانا. عددي يا شموس أضراسنا الساقطة.
نهتدي بالإشارة وأسمائها: هذه وتلك وهاتيك. نضع سباباتنا في العين السليمة والعين العوراء.
صدفة خرجنا وغنينا مثل سرب دبابير. صدفة طرنا في وجه السماء مثل قبضة تبن.
أما أنت يا ابن منظور فمهما فرقعت لنا بإصبعيك، فلن نأتيك. نريد أن نعيش بلا لغة. نريد أن ننمو بالملح وحده مثل نباتات الغور.
من يأسنا ختنّا للغراب شفته، وللوزغة قلبها، فغنت يائسة: تشك تشك تشك.
نحن المأخوذون، فلم أخذتمونا؟
نحن الخاسرون، فلم اشتريتمونا؟
12/9/2021
■ ■ ■

لا أنا في الحجر ولا في الزهرة.
مع ذلك فقد أحبتني مريم. أشعلتني مثل شمعة، وقرأت رواياتها الطويلة على ضوئي. وكان هذا ملائماً لي. فأنا لا أعرف ما الذي أفعله بالحب الذي وصلني في طرد بريدي.
وأحياناً أرى أن الحب مأسوف عليه مثل ميت في التابوت. وأحياناً أخرى أرى أنه حمار بوريدان الذي وقف متفلسفاً بين كومة العشب وجردل الماء.
وعلى كل حال فهذا لا يهم، فقد كانت مريم مدينة وكنت أنا قاضي قضاتها. وكانت سفينة، وكنت أنا مرساتها التي ألقيت في الماء.
ولعل الحب أن ترميك يد مثل مرساة في الماء، أن تكسرك مثل حصالة، وأن تقتلك مثل حصان.
ليس بين الحجر والزهرة سوى مريم العمياء. وهي تتحسّس وجهي كي تشكله بالطين. والطين نقطة وسطى بين اليأس والحنين


كل شيء يجري مجرى التشابيه: الموت حصان، والقبلة حصالة، والليل رواية طويلة.
وليس بين الحجر والزهرة سوى مريم العمياء. وهي تتحسس وجهي كي تشكله بالطين. والطين نقطة وسطى بين اليأس والحنين.
24/8/2021

■ ■ ■

الخيط في الكفّ، والذكرى امرأة صامتة في البستان.
■ ■ ■

فتحت أزرار قميصي كأنني أفتح الباب كي يدخل الليل.
■ ■ ■

هناك مغزل يغزل، وهناك فم يسمّي.
■ ■ ■

آن الأوان: هذه الجملة ضربة من قرني جاموس.
■ ■ ■

كنت مأخوذاً بالفجر الذي كان يأخذ من جرابي، ويضع في جرابه.
■ ■ ■

لي مآخذ كثيرة على الفجر، ومآخذ على الفجر الذي يليه.
■ ■ ■

أجمع أغنامي كلها بحرف العطف.
حرف العطف هو الكلب الوحيد الذي أثق به.
22/8/2021
■ ■ ■

أعطيني منديلاً كي أخيط اسمك عليه بالحرير. أعطيني وردة كي أجنّ بها. أريد أن أجنّ بشيء ما قبل أن أموت.
وصلت الحقيقة عتبة بيتي، ثم رجعت قبل أن تطرق الباب. وقفت النجمة على نافذتي ثم اطفأت نورها قبل أن تفتح فمها.
سأصلي صلاة الفرض، ثم أتبعك. سأكتب لك مقطعاً حلواً كي يتبدد تحت الشمس.
الأيام أقلام رصاص، وأنا أبريها بالمبراة وأستهلكها. الأيام حجارة وأنا أرمي بها في بركة الله.
صعدت الوزغة بيدها المخمسة على الحائط، وحدّقت عينها الحذرة في عينيّ. صعدت الشمس في السماء، وقذفتني بالجوز الصلب.
والمشكلة أنه لم يعد هناك ما يستحق البكاء، وأنا أريد أن أبكي. اسمعي يا نوال: البكاء هو النجمة الوحيدة التي تبقّت لنا. ليس لنا نجمة غيرها.
وضع الصياد حبّة في بيت النار يا نوال. طوت اليمامة جناحها، وجثمت على الغصن، وأنا أمزّق بالسكين مناديلك، وأحرق بالكبريت مقاطعك.
22/8/2021
■ ■ ■

أسقطت شجرتَك بالبلطة. أسقطت وجودَك مثل فخارة على صخرة. أما اسمك فجعلته حجراً، وقذفت به اليمامات.
ولم أكن أقدح هذا من عقلي، بل كنت أطلعه من القاموس. ولا يؤمن لمن كان القاموس دليله، واللغة حليلته.
لا يؤمن لمن قطر النور من ثدي النجمة في شفتيه.
15/8/2021
■ ■ ■

الشعر مرثية طويلة للذات والكون.
ونحن سنظل نكتبه ما دامت العناقيد السود تُسْقط نهاراً بالقوس والنشّاب كأنها طيور غاقٍ، وما دام هناك أحد يبكي وحيداً مثل سيفٍ في قرابه، وما دام هناك فرسان تتخطّفهم نجوم الموت قبل طلوع الفجر.
14/8/2021
■ ■ ■

هناك نجمة كبيرة، لها أخ صغير يعبدها. وهناك ليل فاسد سكران، وفجر سيطلّ من وراء الأفق بأذنين كأذني حصان.
وأنا أشرب الماء في العتمة من الترعة. أشرب الماء من أحلام باشلار.
وما زلت عند رأيي القديم: حين أموت سأتصرف كميت، لكن قبل ذلك سأتصرف كحيّ.
اطلعي يا هنيدة من الحجر كي نأكل الفجر معاً مثل حبة تين.
اطلعي يا إيزيس من الماء كي أضيء لك الفجر مثل زهرة لوتس.
التشابيه عبيد في أعناقها الأغلال. وأنا أريد ما هو أبعد من التشابيه. لكن ليس هناك أحد استنصحه في هذا. ليس هناك أبَدٌ كي آكل كبده.
هناك نجمة منسية، وسوف يأتي رسول كي ينشر نورها، ويسبّح باسمها. وأنا سأكون أول من يؤمن به.
وهذه كما ترون مقاطعي: حجر في بركة الليل، وحجر في بركة النهار. وسوف أجمعها لاحقاً في كراريس.
آب كراسة واحدة، وأيلول، الذي سيأتي مصلوباً، خمس كراريس.
10/8/2021
■ ■ ■

فتح النهار كفه مثل شحاذ فأسقطتُ فيها قرشاً. فتحت الريح فمها وأرادت أن تغني. أما أنا فما زلت أجري وراء المعنى. وكيف لي أن أجد المعنى وأنا لا أعرف اسمي؟ على المرء أن يعرف اسمه قبل أن يذهب لصيد السّمان.
مرّت طيور أبي فصادة فوقي وهي تحمل خريفي على أجنحتها. مرت قبلها بذور الهندباء مثل باراشوتات في السماء. وأنا هنا بانتظارك. بانتظار أن أموت. اللعنة عليهم من يجعلون الموت رجلاً مجنوناً، أو يجعلونه جميلاً مثل حجر قهرمان.
أما أنت يا إصبعي الصغرى، يا حبة قمح على طرف كفّي، فاشهدي أنني أكتب مقطوعتي الصباحية لحبيبي. أنني أتهجى اسمه، وأعقده مثل خيط أحمر في بنصري.
4/8/2021
* شاعر فلسطيني