لولا الرسائل المتبادلة التي نشرتها مجلة «دفاتر السينما» الفرنسية المشهورة قبل سنوات، لاستغربنا الصداقة الحميمة التي جمعت بين جورج سيمنون (1903- 1989) وفيديريكو فيلليني (1920- 1993)، نظراً إلى اختلاف توجهاتهما؛ فالأول روائي بلجيكي اشتهر بكتابة الرواية البوليسية في المقام الأول، والثاني أبرز مخرجي السينما الإيطالية الجديدة. رسائل امتدت إلى نحو 20 عاماً (1969- 1988) تختزل تاريخاً متفرّداً يضيء المشغل الإبداعي لكليهما، إضافة إلى الطاقة الروحية التي يتبادلانها في تعزيز عمل المخيّلة. كان جورج سيمنون رئيساً للجنة التحكيم في «مهرجان كان السينمائي»، فأبهره فيلم لفيلليني هو «ساتيريكون» (1969)، فكتب رسالته الأولى مبدياً إعجابه بالفيلم. كانت هذه الرسالة فاتحة لعشرات الرسائل الأخرى المتبادلة بين الروائي والمخرج.

من جهته، اختار أحمد الويزي مجموعة من هذه الرسائل ونقلها إلى لغة الضاد بعنوان «رسائل مختومة بطابع المسرّة»، وصدرت أخيراً عن «دار نثر» في عُمان. ورغم الطابع الشخصي لهذه الرسائل، تنطوي على تمجيد متبادل للإبداع أولاً، بصرف النظر عن فارق السن بين الصديقين. يصف فيلليني صاحب «المجهولون في المنزل» بأنه «كائن شامخ ينتمي إلى ميثيولوجيا الأحلام». سوف تتكرّر مفردة «الحلم» في المتن كثيراً، وخصوصاً أن سينما فيلليني في معظمها تنتمي سردياً إلى الاحلام أكثر منها نسخة عن الواقع. حتى إنه في إحدى رسائله يروي مناماً له، يرى فيه جورج سيمنون منكبّاً على الآلة الكاتبة في حديقة منزل (كتب سيمنون نحو 400 رواية و1000 قصة قصيرة)، لكن شهرة هذا الروائي لم تمنعه من أن يقول لصديقه «أحاول أن أصبح مقداماً مثلك، لكني ربما صرت الآن أبالغ في النطح مثل الأكباش الهائجة، من دون العثور على البيئة الحقيقية للقيام بذلك». ولا يتوانى عن تشبيه فيلليني بمايكل أنجلو وشكسبير بقوله «كلما أغمضت عيني، تخيلتك على سطح سقالة غير ثابتة، مثلما كان مايكل أنجلو تحت سقف كنيسة سيستينا، أو شكسبير فوق منصات المسارح الهشة التي يعلن فيها الملك لير صخبه وعنفه أمام جمهور متحرّك بكثافة».
سيعمل سيمنون على تحريض فيلليني للإفادة من أعمال يونغ في التحليل النفسي


يعترف فيلليني بأنه عندما كان شاباً أُصيب بلوثة أدب سيمنون، من دون أن يعالج نفسه منها، وها هو يتعرّف إليه مباشرة، لكن تباعد المسافات بينهما، أهدانا هذه الرسائل البديعة التي سيتسرب بعض أفكارها المرتجلة إلى مذكراتهما. فقد كان جورج سيمنون منكبّاً على كتابه «إملاءات»، فيما سيكتب فيلليني مذكراته «لا أستطيع أن أعطي معنى لوجودي، ولا أن أبرّر عيشي اليومي إلا حين التواجد وسط الجَلَبة والفوضى أثناء إنجاز أحد أفلامي» يقول.
المفارقة أن فيلليني لم يقرب أعمال صديقه بتحويلها إلى السينما، فيما اقتبس الآخرون مثل مارسيل كارنيه وكلود شابرول وبرنار تافرنييه نحو 170 فيلماً من رواياته؟ فقد كانت سينما تعمل في ضفة أخرى، وتنأى بعيداً عن الواقعية الإيطالية الجديدة نفسها. على الأرجح، هذا ما جعل سيمنون يقول في إحدى رسائله له «أعمالك لا تنتمي إلى أي تقليعة تعبيرية، وهذا ما يجعلها نفيسة جداً»، و«أفلامك مختلفة لأنها لا تستجيب سوى لانشغالاتك الذهنية». سيلفت فيلليني إلى لغة صاحب «الأرملة كوديرك» وقدرتها على العبور نحو اللغات الأخرى بسلاسة، على عكس لغة أفلامه. يشير إلى ذلك بقوله «أمّا أنا، فألقى كلّ مرّة مع اللغة المحكيّة في أفلامي، التعقيدات الشديدة والعويصة جدّاً، لأنّ ثمّة دائماً بعض الكلام العامّي في أفلامي، وتعبيرات مأخوذة من اللهجات الدارجة، وشخصيات تتكلّم بطريقة تميّزها بشكل خاص، فتتصرّف تصرّفاً شخصياً كبيراً في كلمات بعينها، وفي بناء بعض التعابير المحليّة التي لا تكون قابلة للترجمة الى لغة أخرى، لأنّ الثقافات والأساطير والديانات والفولكلور والعادات مختلفة بنسبة كبيرة جدّاً، من شعب الى آخر».
هكذا تتناوب حكمة الروائي ببثّ جرعات إعجاب لصديقه السينمائي، بينما يزداد قلق الأخير فيلماً وراء آخر «أشعر وكأنّي لم أقرّر في أي شيء من حياتي أبداً، رغم أني أمارس دوماً مهنة ظلّت تلزمني باتخاذ آلاف القرارات في اليوم الواحد. في حين أنّ القرارات الأخرى، تلك التي لا تتعلق بكيفية التعبير الإبداعي عندي، وإنّما تتصل بالأحداث والوقائع التي ينبغي أن تطال حياتي الشخصية، فيبدو كأني لم أتخذ بشأنها أي قرار واعٍ بالمرّة». في رسالة لاحقة، سيعمل سيمنون على تحريض فيلليني للإفادة من أعمال يونغ في التحليل النفسي، واستثمار العقل الباطني في سردياته البصرية، من دون أي نوع من الرقابة. هناك أيضاً قلق الهوية، إذ يشير الروائي إلى أنه لا ينتمي إلى هوية محدّدة، على عكس السينمائي الذي تمتد جذوره إلى روما القديمة مهما غاب عنها أو فكّر بهجرتها.
اليوم، لن نقع على رسائل مشابهة، فلا أحد ينتظر قدوم ساعي البريد، كما لن يغامر روائي كبير بمديح سينمائي شاب ويقول عنه ببساطة «أتصوّرك على شكل شهب نارية لا يخبو لها وميض أبداً».