عينا أولاد أحمد تقدحان شرراً. لا نذكره إلا هكذا، غاضباً كان أو سعيداً (نعم، كان هذا يحدث أحياناً)، مرهقاً أو منشّطاً، صاحياً أو في حالة نيرفانا، صامتاً (في ما ندر) أو مستسلماً لهذيان لغوي طويل… كان بؤبؤاه ناتئين، وكانت عيناه تبحلقان في ما ومن حوله على الدوام، كأنما هو في حالة تأهّب مستمرّة للاشتباك أو الخناقة. ولم نعرف يوماً سرّ صوته المكسور حين يقرأ الشعر أو يتحدّث أو يخانق ويشتم: هل هي بحّته الطبيعية، غشاوة تتصارع معها الحنجرة؟ أم أنها كثرة التبغ والكحول، والهتاف والصراخ…؟ إذا كان لكلّ شاعر قصيدة أو ديوان أو مجموعة قصائد نستعيدها في غيابه، فإن أهم قصيدة لمحمد الصغيّر أولاد أحمد هي حياته. عاشها بصخب، حتّى الرمق الأخير، كأنّها من تأليفه. هكذا أرادها، وهكذا عاشها، ورحل من غير ندم. حياة ملؤها الاستفزاز، والتمرّد، والعصيان. والتداعيات اللغويّة النابعة من وجدان نازف، وصفاء لا يعرف أي شكل من أشكال التسوية أو المساومة. قصيدته حياته، وهذا لا يعني التقليل من قيمة المنتج الشعري لأولاد أحمد الذي يتصدّر جيلاً مميّزاً في الثقافة التونسية، هو جيل الغضب، جيل الأحلام الضائعة، جيل البعث واليسار والعروبة والهوى الشرقي، جيل الحداثة والتجوز، جيل الصخب الوجودي، وخيار المعارضة. معارض حتى الثمالة. لم يتغرّب مثل آخرين، بقي في تونس، حائماً في الزنقات، متسكعاً بين الحانات. مقهقهاً بعصبية، ومتحدياً العسس والبوليسيّة. لم يكن ذلك فولكلوراً لطيفاً، أيّام بن علي. كنا نسمعه يسخر من النظام على الملأ، ويضحك. الضحك أخطر الأسلحة ضد الاستبداد، هذه الوصفة قديمة قدم الثورة. لم تقوَ السلطة على ترهيبه، ولا تدجينه. حين استلم «بيت الشعر»، قلنا الرجل انتهى، دخل في المعادلة ووقّع عقداً فاوستياً مع السلطة، ككثير من المبدعين والمثقفين. لكن لا، لم يطل الإقامة في دوائر السلطة، أراد أن يحمل إليها روح التمرّد والعصيان، ونشر من حوله الصخب، ووجد نفسه مجدداً في الهامش. موطنه، موطن الصعاليك والخوارج، في العالم السفلي حيث تستمد القصيدة نسغها. هكذا أحب البلاد، وأحب الشعر. وبعد 14 جانفي كان من الطبيعي أن يتصدّر المشهد. كثيرون سيذكرونه كشاعر الثورة، نحن نحبّ أن نتذكّره قبل الثورة. الشاعر الذي بشّر بمجيء الربيع. لكن المعركة كان تبدأ لتوّها، وقد رحل أولاد أحمد قبل أن تحسم. المعركة مع التزمت والأصولية والورع الكاذب، وخفافيش الظلام، هي الميدان الحقيقي الذي سيبقى زادنا للسنوات الطويلة المقبلة. الشاعر يمدّ لسانه للإخونجيّة ويشرب كأسنا، كأس تونس كأس الشعر وكأس الله! كأسك يا رفيق.