مات محمد الصغير أولاد أحمد. الشاعر الغاضب الذي كانت القصائد تسيل من جسده كما يسيل الدم من صدر فارس جريح في ساحة حرب، وظل يتنفس شعراً حتى الرمق الأخير، حين قررت الروح أن تبرح الجسد في المستشفى العسكري في العاصمة التونسية. في غرفته الباردة، حدق في البياض، ساعات قليلة قبل أن يغادر، وكتب للمرة الأخيرة عشقه لبلاده:تونس
سلّمتُ في الدُّنيا…
وقلتُ: أكونُها:
شعراً
ونثراً
ناقداً
ومُبشّراً…
طولَ الفصولِ الأربعهْ

■ ■ ■


أنْثَى
وأمّي
ليس لي…. قبْرٌ
في المــَا-بعْدُ
(في الأُخْرى)
سوى هذي الحُروفِ الأربعهْ.
شاعر بمزاج الحطيئة وقلب عروة بن الورد وشجاعة عنترة، استطاع أن يخبئ حنقه في جمل رشيقة، يعثر عليها في أماكن مجهولة لا تخطر على بال، وحين يصففها على الورق، تصفع من يقرأها كما يصفع الهواء البارد وجوهنا في صباح مشمس. ديواناً بعد ديوان، كرس أولاد احمد نفسه كأحد رواد "السهل الممتنع" في الشعر العربي الحديث، الى جانب الكبار من أمثال محمود درويش، ونزار قباني، ومحمد الماغوط وسعدي يوسف... وهو لا يقل موهبة عنهم، رغم أن النقد لم يوله نفس الاهتمام، ولعل في ذلك شيء مما لخصه ابن حزم الأندلسي قبل قرون في بيت صغير:
أنا الشمس في بحر العلوم منيرة
ولكن عيبي أن مطلعي الغرب!
من الصعب أن تفصل بين القصيدة والحياة وأن تفرق بين الشعر والثورة في حالة أولاد احمد. صاحب "حالات الطريق" رضع الثورة من ثدي مدينته الأم سيدي بوزيد. كان مستعجلاً في المجيء ومستعجلاً في الذهاب: لم ينتظر أن يحرق البوعزيزي نفسه كي يعلن الثورة في الشعر والشوارع، ولم ينتظر وصول زين العابدين بن علي الى الحكم كي يدخل السجن... دخل الى القصيدة كما يدخل لص الى مصرف، بعدما كسر الباب وأطلق النار على الحراس. عام 1984، دفع إلى المطبعة ديوانه الاول «نشيد الايام الستة»، لكن رقابة بورقيبة صادرته لأنه يتضمن جملة تمس بالزعيم. طلبوا منه حذف المقطع مقابل نشر الديوان، لكنه رفض أن يغير حرفاً واحداً من قصيدته، وانتصر عام ١٩٨٧ على الرقابة، حين صدر الديوان كما ولد، دون تعديلات، بكامل مخالبه واشواكه!
في دواوينه اللاحقة صاح متهكماً: "ليس لي مشكلة" و"لكنني أحمد"، وانزعجت منه السلطة أيضاً، واستضافته في "إقامة أدبية"ً حيث أمضى أياماً محترمة في السجن، مرة بعد ثورة الخبز عام 1985 في إطار الاعتقالات التي طالت أعضاء "الاتحاد العام التونسي للشغل"، وفي المرة الثانية "على حسابه الخاص" كما ظل يردد ساخراً.
في بداية التسعينيات، غادر أولاد احمد تونس بعدما طرد من العمل حيث أقام مدة قصيرة في فرنسا، قبل أن يعود عام 1993 ليؤسس "بيت الشعر"، وهو الاول من نوعه في العالم العربي، مستلهماً ذلك من التجربة الفرنسية، لكنه غادر "البيت" مكرهاً بعد أن كاد له الكائدون، وسرعان ما انتشرت هذه "البدعة" في معظم البلدان العربية، وصارت تنافس اتحادات الكتاب في الرداءة والبيروقراطية!
رغم نجاحه الأدبي وانتشار قصائده، لم يتحول اولاد احمد الى شاعر أليف، كما يحدث للكثير من المبدعين الذين يدخلون القصيدة غاضبين، وما أن يتذوقوا حلاوة الاعتراف والشهرة، حتى تصير نصوصهم اليفة مثل قطط سمينة تموء في غرفة نوم. يفقدون الأسنان والمخالب دفعة واحدة. الصغير الكبير ظل يكتب بنفس الحدة والغضب. قصائد مدججة بالسكاكين، لها أنياب طويلة، ولا تتردد في عض التافهين والرديئين وعشاق الظلام.
ابن سيدي بوزيد أحب بلده حتى الموت. كتب فيها اجمل الأشعار، قصائد غزلية رقيقة تذكرنا شعراء كباراً من عيار جاك بريفير وبول ايلوار:
نحبُّ البلادَ
كما لا يحبُّ البلادَ أحدْ
صباحا ً
مساءً
وقبل الصّباحِ
وبعد المساءِ
ويوم الأحدْ
ولو قتّلونا
كما قتّلونا
ولو شرّدونا
كما شرّدونا
لعُدنا غزاة
لنفس البلدْ... ً
من النادر أن تعثر على حب أعنف وأشرس مما يتضمنه البيت الأخير، الذي يهدد فيه المطرود بالعودة غازياً الى البلد الذي أخرج منه!
اولاد احمد كان محارباً شرساً على جبهة الضوء واللغة والجمال والسخرية. لم يهادن الرداءة يوماً. كان يتصرف مع الكلمات كأنها ذخيرة حية، يخبئها في غرفة سرية، وحين يكتب قصيدته تسمع إطلاق نار كثيف...
حين اندلعت الثورة التونسية، بعدما أحرق البوعزيزي جسده ومعه الوطن العربي، كان الشاعر في طليعة من خرجوا الى الشارع وأدركوا أن الثورة آتية لا ريب فيها، وبدأ في تدوين يومياته وسط حمى الانتفاضة الشعبية، لينشرها في كتاب يشبهه كثيراً تحت عنوان: "القيادة الشعرية للثورة التونسية".
في حزيران (يونيو) ٢٠١٤، جاء اولاد احمد الى باريس. لم يكن يعرف بعد أنّ الخلايا الخبيثة تسللت الى جسده النحيل، رغم أن علامات التعب كانت بادية على وجهه. تغير كثيراً. لكن السنوات لم تنل من سخريته ومزاجه الحاد. تغذينا في مطعم "أوستيريا" جنب «فرانس24»، وأجريت معه حواراً. حرصت أن اطلب منه في مستهل المقابلة أن يقرأ قصيدته في حب تونس: "نحب البلاد"... لا أعرف لماذا، لكنني أحسست أن هناك "مرة أخيرة" في الموضوع !
قبل ذلك بأكثر من عقدين، في بدايات التسعينيات، جاء اولاد احمد الى المغرب ليشارك في مهرجان الرباط. ببنيته النحيلة ونظراته المتوجسة، صعد الى الخشبة في حديقة "نزهة حسان"، حيث كانت تقام اللقاءات الأدبية، وتلفت ذات اليمين وذات الشمال، قبل أن يبدأ في تلاوة "الوصية":
شبه متيقّن كنت
أمّا الآن: فعلى يقينِ مالحِ من أنّني سأموتُ
ميتةَ غامضةً
في الصّيف
وتحديداً:
أثناء النّصفِ الثالثِ من شهر غُشْتْ
أحبّذهُ زوجيّاً، باسماً، ذلك اليوم.
حليق الذقن – مُهذّبَ الأظافر – أنيقًا بربطة عنق خضراء. وحذاء أسود لمّاع –
وأشرعُ - للتوّ - في استقبال ملك الملوك،
وفي توديع ما علق بالذاكرة
من ملابس النّصفٍ الأسفل للدّنيا...

■ ■ ■


ران الصمت على الحديقة. كان الصفصاف ينصت في خشوع والزهور وأسوار "نزهة حسان" والمباني المجاورة والعصافير والقطط المشردة ونادل المقهى... وحده إدريس الخوري كان يصيح بين الفينة والأخرى: "جمّيييل"... ويصفق!
هل مات أولاد احمد حقا في الخامس من ابريل؟ كلا، لم يمت. وإذا كان لا بد من رحيل فليكن في الصيف، في النصف الثالث من غشت... "الوصية" لا تكذب والشعراء لا يموتون!
شاعر وإعلامي مغربي مقيم في باريس
انسيرت:
رغم نجاحه الأدبي وانتشار قصائده، لم يتحول الى شاعر أليف، كما يحدث للكثير من المبدعين