سلام إبراهيم



الكتاب الأول مؤشر مهم لمبدع النص تحديداً. فهو يكشف بشكلٍ مبكر عن أسلوب الكاتب، لغته، فلسفته، رؤاه، والأهم... الأهم من وجهة نظري هدفه من فعل الكتابة وتقديم شكل جمالي من خلال اللغة والأفكار والأحداث بالنسبة إلى النص السردي مجال اشتغالي.
وهو بهذا المعنى يكشف أيضاً عن موهبة الكاتب وقدراته وثقافته وأفق تطورها.
اكتسبتُ هذه المعاني والأبعاد بشكلٍ مبكرٍ جداً من خلال دخولي المبكر للوسط الأدبي في مدينتي الجنوبية ـ الديوانية- وصداقتي للشعراء والأدباء اليساريين كعلي الشباني، وعزيز سماوي مجددي القصيدة العامية العراقية، والشاعر كزار حنتوش، والناقد والروائي سعدي سماوي في أواخر ستينيات القرن الماضي.
كان علي وسعدي لتوهما رأيا النور حيث قضيا أكثر من سبع سنوات في سجن الحلة في قضية المطبعة الشهيرة، إذ سرقت المجموعة طابعة من مدرسة، وطبعت بيانات باسم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي التي صفيت في المعتقل عام 1963.

وحينما نطق القاضي العسكري الحكم عليهم، رموه من قفص الاتهام بالأحذية، بينما جَرّبَ عزيز سجون بعث العراق في وقتٍ أبكر. كان الجميع يكبرني بأكثر من عشرة أعوام، فتتلمذتُ على أفكارهم وتذوقت إبداعهم، والدرس المهم الذي يتعلق بمشروع الكتابة رسخ منذ تلك الأيام هو: النشر ليس مهماً، الأهم في الكتابة هو جودتها وجمالها وملامستها المبادئ الإنسانية الجوهرية كون الإنسان هو أثمن ما في الوجود. أما النشر فسوف يأتي لاحقاً.
لازمني الدرس حينما انغمرت في مشروع الكتابة في تلك الأيام، يضاف إلى طبيعة الأفكار والمواضيع التي انشغلت بها حيث ركزتُ اهتمامي على محنة حرية الإنسان في المجتمع العراقي المغلق الصارم، الذي أفرز سلطة «البعث» القمعية الدموية.
فكانت فكرة نشر قصة من القصص التي كتبتها في تلك الفترة ضرباً من المستحيل. لا أفكار مضمرة، لا أحداث غامضة، لا تفاصيل مخفية على شكل رموز، ولا تعمية للدوافع النفسية والفكرية لشخوص القصص. ما كتبته من قصص جاوز الخمسين حتى عام 1980 يشير إلى الظاهرة بشكل مباشر، ويصور محنة الكبت والجنس والقيم، والقتل في الزنازين وحياة المعتقل في السجون أو الجندي في الجيش الذي يتحول إلى عبدٍ. كنتُ أُجمّع ما أكتب في دفتر كبير، عثرت عليه عقب الاحتلال الأميركي عام 2003 لدى أهلي الذين أخفوه.
ما شجعني ودفعني إلى الكتابة بغزارة تجربة واحدة مهمة جداً زادتني ثقةً بما أكتب حينما بَعثتُ بقصةٍ قصيرةٍ إلى جريدة «التآخي» عام 1972، فَنُشِرَتْ بعد أيام على صفحتها الأدبية وكانت تلك محاولة لم أكررها. النشر ذاك جعلني أثق بأن ما أكتبه صالح للنشر.
طبيعة ما أكتبه من نصوص، وملاحقة السلطات الأمنية لحركتي، فقد اعتقلت خمس مرات من عام 1970 إلى عام 1980، جعلتا من فكرة النشر مستحيلة، فمن يحل بزنازين رطبة ويُعذب ويهان ويعامل كرقمٍ تسوّد نظرته إلى المستقبل ويتشاءم، وهذا ما كنت أشعر به في دخيلتي وأصرح به في أي محفل أحلّ فيه.
ما حدث عقب عام 1980 وبداية الحرب العراقية الإيرانية كان مهولاً. بخلاف كتّاب السلطة الذين مجدوا قيم القتل وكتبوا نصوصاً تبرر الحرب والقمع وتقلب الحقائق بتزييف الأحداث وبواعثها، كنتُ أحاول الحفاظ على كينونتي المهددة بموتٍ يحوم حولي في جبهة مشتعلة حينما ساقوني جندياً، وموتٍ يربض في زنزانة عفنة جربتها مراراً راحت تغيّب المزيد من الأصدقاء إلى الأبد.
صرتُ كمن يسير على صراطٍ مستقيم أتأرجح وأتوازن مضطرباً إلى أن وجدت نفسي أمام سؤالٍ صريح:
- مع من تريد الموت؟!
وهنا حزمت أمري والتحقت بثوار الجبل في خريف 1982 لأخوض تجربة حرب أخرى. سيموت العديد من الثوار بين يدي، كما مات قبلهم جنود في الجبهة. سأصاب بقصف بأسلحة كيماوية في 5-6-1987 وأتأرجح بين الموت والحياة، وتعطب رئتيّ بقية العمر. سأنجو بمحض صدفٍ لأَحلَّ لاجئاً في معسكرات اللجوء التركية والإيرانية، لينتهي بيّ المطاف إلى الدنمارك عام 1992.
وصلتها وأنا على حافة الموت لأني لم أكن أعلم ما أصاب رئتي من دمار.

ركزتُ اهتمامي على محنة
حرية الإنسان في المجتمع العراقي المغلق الصارم

في كل المخاض الذي مررت عليه مروراً سريعاً، لم أنقطع عن الكتابة. يوميات وقصص قصيرة أكتبها في البيت وقت الإجازة، وفي الجبهة وسط الجنود، وفي غرفٍ تخفيت فيها حينما هربت من الجيش، وبين الثوار وقت الراحة. على ضوء الفوانيس، وجوار ينابيع الماء، وفي معسكرات اللجوء. كانت الكتابة تخفف كثيراً من ألم الروح وقسوة الظروف والجوع والتعب والمخاطر والتشرد والأفق المعتم، وتمنحني متعة فريدة ونشوة لا مثيل لها، تجلب لنفسي السرور والمزاج الساخر الفكه بالرغم من سوء المحيط.
بعضها ضاعت، نسيتها في مخابئ وغرفٍ وحقائب وكهوف، وأخرى مزقتها خوفاً أو يائساً. وما تبقى وصل معي إلى الدنمارك.
عشرون قصة مكتوبة بورق قديم لم أفكر بها وأنا أتنفس بالكاد. لكن بعد مرور عام، تحسنت صحتي بالعلاج والعناية، فالتفتُ إلى أوراقي، وفكرت بطبع مجموعة قصصية. انتقيتُ سبع قصص فقط وبعثتها إلى دار «الكنوز الأدبية» (بيروت)، فظهرت في عام 1994 تحت عنوان «رؤيا اليقين».
سبع قصص عن تجارب شديدة المحلية، عن حياة ثوارٍ في حركة معزولة في الجبل. معاناتهم محنتهم، شجاعتهم جبنهم، وهم يتقلبون بين اليقين وعدمه، اليأس والأمل، يَقْتِلونَ ويُقْتَلونَ بقناعةٍ مهتزة. أمسكت بوليدي الأول، وكأني أمسك حمامة غضة. كتيب صغير بخمس وثمانين صفحة من القطع الصغير وبحروفٍ كبيرة، وغلاف أنيق مثل طفلٍ نظفته القابلة ووضعته على صدر أمه. حضنته وقبلته ما أن أخرجته من صندوق البريد. وبالرغم من ثقتي بأداء قصصي، كنت قلقاً، ذلك القلق الذي يلازمني مع صدور كل كتاب جديد.
وقتها، كنت أريد معرفة هل خطوتي الأولى بالاتجاه الصحيح؟! هل لامست بهذه التجارب المشترك الإنساني؟! هل ينفعل من لم يعش التجربة مثلما ينفعل من مرَّ بها؟ هل ما أثرته من إشكالات فكرية وإنسانية وفنية تتعلق بالموقف من الحرب والعنف، ستجد قبولاً عاماً أم لا؟!
ففي كل قصة، قدمت مأزقاً وموقفاً وفلسفةً مضمرة خلف الحدث الذي يشكل نسيج النص!
وبالتالي: هل قدمت قصصاً جديدة تضيف شيئاً للقارئ؟!
لم أنتظر طويلاً، فَكُتِبَ عن المجموعة في الصحافة العراقية والعربية العديد من المقالات من كتاب عراقيين وعرب. كان الأهم بالنسبة إليّ مقال الشاعر والناقد الفلسطيني المقيم في سوريا راسم المدهون في صحيفة «الحياة» اللندنية بتاريخ 8-12- 1994 في صدفة تفاءلت بها، فهذا يوم مولدي وتاريخ بلوغي عامي الأربعين. اعتبرها حينها مجموعة ممتعة أسلوبها جديد ومثيرة لأسئلة تتعلق بالموقف من الحرب والعنف والدكتاتورية من خلال تجارب قصصية تعتمد على الحكاية وبحبكة محكمة ولغة سلسلة منسابة.
حينها، أدركتُ أنني أخطو نحو عالمي خطوةً صحيحة، فاندفعتُ نحوه بحذرٍ وحماسٍ وجديةٍ فأصبحَ لدي ست روايات ومجموعتان قصصيتان، وما زلتُ أسعى لاكتمال تصويره.
حينما طُلب مني الكتابة عن كتابي الأول، أسرعت في إعادة قراءة القصص، لم أجد مفردةً أو إحساساً زائداً أو ضعفاً في مبنى أو خلالاً في حبكة، بل استمتعتُ جداً كأني أقرأ قصصاً لكاتبٍ آخر، وسعدت لأنني لم أجد ظلالاً أيديولوجية ما عدا أيديولوجية الانحياز التام للإنسان بغض النظر عن كل معتقدٍ.