قبل أيام رحل الشاعر محمد الفيتوري، فتنبّه البعض؛ فالموت منبه لغفلة النسيان أو للإهمال أو حتى للتأمل في أحوال العداوة والقطيعة. كأن الموت حضور مجدد للشاعر، وكأن كل شعر في الحياة يسطع بريقه أكثر بالموت. تبارت الكتابات في سرد سيرته الذاتية سواء مختصرة أو موسعة، ومع ذلك فقليلون للغاية من سيكلفون أنفسهم عناء الذهاب لمكتبة لاقتناء دواوينه، تلك التي سيجدونها بصعوبة، فالمكتبات العربية تعامل الكتب كالخبز، ما كان طازجاً يُعرَض.
لن أغوص هنا في رثاء الشاعر أو أركن إلى ناصية المديح؛ فقد سجلتُ عنه حروفاً قليلة في سِفْر ضخم يضم كتابات أعمق وأكثر إلماماً مما فعلت، سجلتُ حروفي كامتنان لصاحب أكبر موسوعة شعرية عن أفريقيا بالعربية.
لكن وفاة الفيتوري ومن قبله الطيب صالح وغيرهما كثيرين، تطرح عندي سؤالين حارقين يبدآن بلماذا: لماذا يطرد «السودان السياسي» مبدعيه للخارج باستمرار؟ ولماذا يتكرر خنق الإبداع في الداخل؟ وبعد طرحي للسؤالين، أتنازل عن الإنصات للإجابة لأسباب تخصني وأرفع أداة السؤال لأترك الجملة في سبات الإثبات!
الفيتوري عاش وكتب واضطر للرحيل وعاد لتكريم متأخر، وربما يكون قد محا به في ذروة الانفعال جروح الزمن أو قد يكون نكأها. الطيب صالح أيضاً مُنعت كتبه من التدريس في الجامعات السودانية، بينما يدرسها الطلاب في معظم جامعات العالم، فيتعلمون هم كيف ومتى ولماذا وعمّ نكتب، ونبقى نحن في غرفة التفسير العقائدي لطعامهم وشرابهم وملبسهم!
ما يهمني في هذه المناسبة هو مستقبل القلم السوداني من خلال سيرته الموجوعة، وهل ستتم تدريجياً زحزحة الكتابة القادمة لتكون بعيدة عن أي حس اجتماعي سياسي؟ هل سيتم تدجين جيل جديد يتم تلميعه للوقوف في الصف الأمامي، بينما يزاح كل من يكتب بصدق خارج الحدود؟ لا أدري لماذا تداهمني فكرة أن السياسي لا يقرأ، وأنه يعهد لآخرين بالتلصص على المكتوب، وعن مدى تجاوز ظل الكتابة لمصير الكرسي. هل يقرأ السياسي فعلاً بضمير المواطن العادي، وهل يستمتع بروح الإبداع ويتقبل النقد بحس طبيعي سليم؟ أشك في ذلك!
الشاعر الراحل محمد الفيتوري كتب القصيدة التالية ونشرها في ديوان «سقوط دبشليم» (1969)، كتبها في مناسبة مقصودة ذكرها في أحد حواراته، إلا أنني كلما أعدت قراءتها أحسست أنها قريبة من الواقع وأحوالها دائرة تتكرر في كل زمان بحثاً عن «المنظار القديم»، يقول فيها: «اللصوص اقتحموا حواجز الميناء/ وحطموا سارية السفينة/ وسرقوا كنوزها الثمينة/ ولم يزل قبطانها يضرب في أزقة المدينة/ يبحث عن منظاره القديم/ تلك هي الرواية التي أرى فصولها يا دبشليم/ اكتب عن عصرك../ وابني لك في شعري قبراً من ذهب/ ترقد يا مولاي من أفراحه في مهرجان/ وتصبح فرعون الذي كان وكان/ ومثل ما جاء ذهب إلا بقايا من حنطة / ومومياء ملك وظل صولجان».
كما ترى أيها الشاعر الراحل فإن الكلام جرّ الكلام حتى وجدت نفسي أكتب مرثية الأحياء المنسيين ومرثية المنذورين للرحيل عن الوطن وعن الحياة، وطوبى لأفريقيا وللكلمة الصادقة.
*شاعر وروائي سوداني