حسام حنوف* في كتابة الوجع على الورق ما ليس في قراءته على الملأ من رجفة وبحة وغصة ونظرات حائرة تُنثر على المصغين كأرزّ الثكالى، ولكن هذا الذي تفتقده الكتابة يجعلها حرزاً من الفضيحة. فضيحة الحب الكامل. فضيحة التفجّع في مقامات يريدها الناضجون رزينة ساكنة يتقدم فيها النقد العاقل الواعي العلمي على ما سواه. فضيحة انتماء الغريب للغريبِ الشاعرِ الذي كم سلب وخلب وما زال يسلب ويخلب.

خطر لي يوماً أنه لكثرة ما في العالم من شعر عظيم وشعراء عظماء، لو يقلع كل ذي قريحة عن كتابة الشعر لعقود طويلة يعكف فيها على قراءة النصوص المتراكمة، إذ تكاد تكون قراءة بعض الشعر شعراً. ليست الدعوة جدية، لكن، ثمة شعر عظيم كثير في العالم، شعر لا ينفد. بل قل ثمة شعرُ شاعرٍ واحدٍ لا ينفد. شعر أنسي الحاج، هو شعر لا تستنفده القراءة، بل كأنها تُكثّره. ولكن، أيضاً، رغم كل ما في العالم من شعر عظيم، مازال يخرج فينا شاعر منا، يأتي، وإن كان الأخير زمانه، بما لم يستطعه الأوائل، على حد فخر المعري أيام كان يفخر قبل أن يعتزل الفخر والعالم. أنسي من الشعراء الذين لم يمنعهم كل شعر العالم العظيم المتراكم على كتفي الوجود من الإتيان بجديد. نقول هو جديد وحديث ونعلم أن جِدّته وحداثته ليستا إلا توصيفنا ومقارنتنا، لأن شاعرَ هذا الشعرِ، أنسي، لم يكتبه لأنه شعر جديد وحديث، بل لأنه شعره. أنسي لم يجدّد بل كان هو جديداً. هو جديد لا مُجدِّد. حديث لا مُحدِّث.
اليوم، يحرقُ البعضُ البعضَ، فيذهب بعضٌ ثالث إلى التاريخ ليؤصّل للحرق بمرجعية قديمة توجب الحرق وتشرعنه، ويذهب بعضٌ رابعٌ إلى التاريخ نفسه ليؤصل لرفض الحرق بمرجعية قديمة توجب اللاحرق وتشرعنه. المتطرف يجذّر لتطرفه ويؤصّله بتطرف قديم. المتسامح أيضاً يجذّر لتسامحه ويؤصله بتسامح قديم. في كل شيء يجري البحث عن التأصيل والتجذير. الكل يريد تجذير الراهن. يريدون تجذير القبح الراهن بقبح قديم والجمال الراهن بجمال قديم. كأننا محكوم علينا أننا فروع توابع لأصل واحد قديم مقيم، وأننا نموت ما لم يجر فينا نسغ الجذور، وأن لا نبت جديداً في تربة العالم، بل فروع نامية لجذور قديمة. حتى الحداثة حين انفجرت بها قرائح الشعراء العرب راحوا يبحثون عما يؤصل لها في القديم. أدونيس، كما ذكر أنسي، يختلف عنه في أنه حاول البحث عن جذور قديمة لقصيدة النثر. أنسي، لم يعبأ لذلك البحث ولا لهذه الجذور. هذا كله لم يكن في حسابات أنسي الحاج الذي يكتب بلا حسابات. فمثله حديث وجديد من حيث هو لا من حيث يريد ويسعى. لم يبحث أنسي عن جذر، ربما لأنه كان جذراً بذاته. وإن كان لا بد من أصل، فكأنما شجرة الشعر والجمال المعمّرة أثمرت جذراً انفصل عنها هو أنسي الحاج. لكن، ولتكتمل المفارقة، فقد تزامن تجذير الحاضر والحديث، مع عدم استنبات الجذر الجديد. تجربة أنسي أمامنا اليوم هي جذر جديد. وجذر يانع مثل هذا يُستنبت. علينا أن نستنبته لنا. للغتنا. لجمالنا. لحداثتنا الحق.
النبي بتلاميذه وصحبه وأتباعه، بمريديه، بالدعاة إليه. الثوار بأبناء روحهم اللاهبة وحَمَلة فكرهم الحر، وورثة صرخاتهم وحرّاس جراحاتهم. شعراء العالم بقرّائهم وأهل بلدانهم وناشريهم ونقّادهم. تقيم أمسية عن أنسي الحاج لأنك تحبه وتدعو من يحبه ليحكي ومن يحبه ليسمع، عليك أن تدعو من لا يحبه ومن لا يعرفه. في ذكرى رحيل أنسي لا تنتشر صوره وأقواله وأشعاره وكتبه في شوارعنا أو ساحاتنا ولا على الجدران أو الحافلات أو في المدارس والجامعات كما يفعل غيرنا مع شعرائهم. تحتفي به جريدته نفسها التي كان يكتب فيها، ويحتفي به الذين عرفوه عن قرب، وترى الذين يحبونه فقط يكتبون عنه للذين يحبونه فقط. لم يعد الكاتب يكتب للقارئ. الكاتب اليوم يكتب للكاتب. الناقد يكتب للناقد. إحياء المبدع عندنا، لا يجري بين الناس بل بين المبدعين الذين يدّخرون إحياءات غيرهم ليوم تجد ذكراهم فيه من يحييها. مات الحلاج شر ميتة على يد شر الناس، لكن تلاميذه ومريديه ومحبيه أحيوه أعظم حياة. المجرمون صلبوا الحلاج على شجرة، ومحبوه زرعوه في كل قلب حتى امتدت غصونه تطرق زجاج كل عين.
في مناهج التدريس العربية، يعرف التلاميذ قصائد الهجاء والمديح والثأر والنوق والسيوف التي عمرها مئات السنين، ولا يعرفون أنسي الحاج. يربى الصغار على الفخر بالقبيلة وتعظيم حاكمها ولا يربون على الانسحار. يحفظون الخيل والليل والبيداء ولا يسمعون أنسي يفاخر صديقه: "لنا الحب يا صديقي وليس لغيرنا. نحن ملهوفون، وما فينا من الثعالب غير لطافتها. ولو لم نكن عشاقاً لكنا محابيس الأديار، ومبشري الأديان، وأنبياء المنفى. روح الزنابق نحن يا صديقي، ونحن وحدنا في الحب. والعصافير أفعل للشرّ منا... لي حبيبة يا صديقي وليس لك حبيبة".
وإن كان زمن قراءة النص أقصر بكثير من زمن كتابته، فإن كتّاباً، مثل أنسي، يجعلون هذه العادة باطلة، فما كُتب في سنة لن يصح لك أن تقرأه في يومين وليلة. بل كأن ما كُتب في أشهر يُقرأ في سنين. نصوص أنسي هي كذلك. ولأن أنسي جديد بكل ما فيه، جديد في عالم رث، وكأنه اخترع اللغة، وكأنه أول من يستخدمها، فهو يجعلك، حين تسمع لغته، كأنكَ أولُ من يسمع لغة. دهشة النطق الأول لا تقل سحراً عن دهشة السماع الأول.
كان أهل الشعر عندنا يقرنون كل شاعر بخليفة أو أمير. المتنبي شاعر سيف الدولة وأبو نواس شاعر الرشيد وأبو تمام شاعر المعتصم... ثم صاروا يقرنون شعراء الحداثة بالشعراء الأجانب الملهمين لهم. حتى ما عدت تقف عند شاعر عربي حديث لم يُقرن برامبو أو بودلير أو بريفير أو بروتون أو آرتو أو أراغون... أنسي الحاج حاولوا قرنه بغيره رغماً عن شعره، لكن، لا، في هذا اليوم نعرف أن اسم أنسي لم يقترن إلا بالنقاء الحاد والخجل والعزلة والليل والجمال. اقترن اسمه بـ "لن"، وبمجلة شعر، اقترن بخواتم، اقترن بفيروز، اقترن بتعصّب محبيه له. اسم أنسي الحاج اقترن بأنسي الحاج فقط.
في هذا اليوم، وفي مثل هذا اليوم بعد عام، وفي كل عام، سيُذكر أنسي الحاج عند مفارق القبح والجمال والذبح والحب حتى به يُهتدي.
في هذا اليوم مازال عبّاد الشمس في لوحات فان غوخ أحلى من عباد الشمس في بساتين العالم، ومازال العالم في نصوص أنسي أحلى من العالم في عيون العالمين.
في هذا اليوم يُشتاق لأنسي الحاج. يُشتاق له يكتب خواتمه فيغني عن فواتحنا. يُشتاق له يكتب هو عنا فيريحنا من غدرِ أن نكتب نحن عنه.
في هذا اليوم، والإخوة يتذابحون، يُشتاق لمن يَشتاق لأنسي الحاج. يُشتاق للإخوة في أنسي. أنسي الحصر وأنسي المثال. أنسي الذي هو هو، وأنسي الذي هو بضعة الروح الواحد الساري في كل أبدان البهاء وبعضُها الإنسانُ.
في مثل هذا اليوم قبل عام: خرجَ الشعرُ كلُّه منَ الموتِ كلِّه.

* شاعر سوري