بدا أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، يواصل السعي إلى حصر الأضرار عليه وعلى حزبه جراء موقفه الأولي المتخاذل من الحرب الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة، والذي يُعتبر أحد الأسباب الرئيسية لخسارة «حزب العدالة والتنمية»، الانتخابات البلدية الأخيرة. وفي خطوة جديدة على هذا الطريق، أثارت سخرية المعارضة بسبب تأخرها، أعلن وزير الخارجية التركي، حاقان فيدان، أن أنقرة قرّرت الانضمام إلى جنوب أفريقيا في الشكوى التي قدّمتها الأخيرة في نهاية العام الماضي أمام «محكمة العدل الدولية» في لاهاي ضد إسرائيل، بتهمة انتهاك اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية. وجاء كلام فيدان خلال مؤتمر صحافي مع نظيرته الإندونيسية، ريتنو مارسودي، في أنقرة، أول من أمس، حيث قال إنه «يجب اتخاذ تدابير زاجرة ضد إسرائيل. ونحن أمام عملية اختيار بين الدفاع عن القانون أو أن ندفع معاً ثمن الظلم الحاصل. فالدم الذي يُراق في غزة ليس فلسطينياً فقط. غزة تضع العالم أمام امتحان. وتركيا قررت أن تنضم إلى جنوب أفريقيا في القضية المقامة ضد إسرائيل في لاهاي».وكانت مجموعات كبيرة من المحامين الأتراك قد رفعت، أكثر من مرّة، شكاوى أمام المحكمة نفسها ضد إسرائيل، بعدما وجدت أن الحكومة التركية لن تقوم بذلك، رغم وصف إردوغان إسرائيل بأنها «مجرمة حرب» وتهديده بالتشهير بها أمام المحافل الدولية. إذ إن هذا التهديد لم يُترجم على الأرض، حيث انفردت جنوب أفريقيا برفع هذه الدعوى في 29 كانون الأول الماضي، باتهام إسرائيل بانتهاك المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية. وقوبل قرار فيدان بسخرية عدد من الأوساط التركية، حيث جاء أول رد فعل عليه من رئيس «حزب الديموقراطية والتقدّم»، علي باباجان، الذي قال: «لقد تأخرتم»، مضيفاً في منشور على منصة «إكس»، أنه «منذ اليوم الأول للعدوان على غزة، نكرّر الشيء نفسه، وهو أن غزة لنا جميعاً، وهي مأساة كلّ الإنسانية». وأشار إلى «أننا دعونا السلطة إلى أن تقوم بواجبها. واليوم أضيف شيئاً آخر: لقد تأخرتم. لقد تأخرتم من أجل 34 ألف إنسان، من أجل هند وخالد وعمار»، وتابع: «قبل أن يتحرّك الطلّاب في الجامعات الأميركية، وقبل أن ينزل الناس في شوارع العالم ضد الإبادة، كان عليكم أن تتحرّكوا. وبعد 124 يوماً من تحرّك جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل، وبعد أن سقط 13 ألف قتيل إضافي، لماذا تأخرتم إلى هذا الحد؟ ما الذي كنتم تنتظرونه؟». وكان رئيس «حزب المستقبل»، أحمد داود أوغلو، قد انتقد الحكومة سابقاً، معتبراً أنه كان عليها هي أن تتقدّم بالشكوى قبل جنوب أفريقيا.
في هذا الوقت، لوحظ أن معظم التظاهرات التي عمّت العالم في مناسبة عيد العمال، حملت العلم الفلسطيني، وتحوّلت إلى احتجاجات مؤيدة لقطاع غزة. غير أن الوضع في تركيا كان مغايراً، حيث منعت الحكومة النقابات العمالية من الاحتفال التقليدي بعيد العمال في «ساحة تقسيم» في إسطنبول، وأغلقت مداخل الساحة وجوارها كما «شارع الاستقلال». وأضافت إلى ذلك إغلاق ساحة «سراتش خانه» القريبة من مبنى بلدية إسطنبول، ومنعت المتظاهرين من إكمال طريقهم إلى تقسيم. وانتقد زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، أوزغور أوزيل، منع التجمّع في «تقسيم»، وقال إن ذلك مخالف للدستور. وهو كان هنا يكرّر كلاماً لإردوغان نفسه قاله عام 2010 عندما سمح من جديد بالتظاهر في الساحة بعد إغلاقها أمام أي تظاهرات منذ انقلاب عام 1980. ونجح «حزب العدالة والتنمية» في تنظيم مثل هذه التظاهرات في أعوام 2010 و2011 و2012 في سياق احتدام الصراع مع «اللوبي العسكري والعلماني»، حيث ضاقت الساحة والشوارع المحيطة حينها بعشرات الآلاف من المتظاهرين، قبل أن تعود حكومة «العدالة والتنمية» نفسها إلى إغلاق الساحة بعد انفجار الصراع بين إردوغان وفتح الله غولين، ولا سيما إثر حركة الاحتجاج الشهيرة التي بدأت في 28 أيار 2013 في الساحة نفسها، والتي عرفت بحركة «غيزي»، وشكلت أكبر تحدٍّ لسلطة إردوغان، ولم تنتهِ بشكل كامل إلا بعد شهرين من بدئها، وتدخّل الشرطة العنيف الذي أودى بحياة 11 شخصاً من المشاركين فيها. ومذّاك، لم يُسمح للنقابات العمالية ولا للمعارضة بتنظيم أي احتفال في «تقسيم». ويقول الكاتب مراد يتكين إن منع الاحتفالات في الساحة جاء بعدما تحوّلت خلال حركة «غيزي»، إلى رمز لمعارضة سلطة إردوغان، ما زال حتى الآن يشكّل له كوابيس تثقل عليه.
ووُوجه قرار إغلاق «تقسيم» كما «سراتش خانه» بانتقادات محلية واسعة من الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، ولا سيما أن الشرطة استخدمت القنابل والغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين. وذكّر المتظاهرون بقرار المحكمة الدستورية في تاريخ 12 تشرين الأول الماضي، باعتبار التظاهر في الساحة حقاً من حقوقهم في إطار الحريات. وجاء في قرار المحكمة أن المادة 34 من الدستور كفلت حق التظاهر والاجتماع، وبالتالي فإن أي قرار بمنع التظاهر في «تقسيم» يُعتبر انتهاكاً للدستور. وفيما وصفت الصحف الموالية للسلطة احتجاجات إسطنبول بالصغيرة والتحريضية وبأنها من تنظيم مجموعات هامشية، تهكّمت صحيفة «جمهورييات» المعارضة بالقول: «كيف يمكن أن تتحدّث السلطة عن إعداد دستور جديد يعزّز الحريات، وهي تمنع العمّال من التظاهر في ساحة تقسيم؟»