يدجّل الإعلامُ الخليجي، كعادته، حين يزعم أنّ نظام الجمهورية الإسلامية في إيران هو من بادر العرب بالشرّ، لا سيّما أهل الخليج. ويذهب الإعلام السعودي شوطاً أبعد في الزُّور، فيدّعي أنّ «ولاة الأمر» استبشروا خيراً، في البداية، لمّا سقط نظام الشاه، في شباط 1979، وتولّت حكومة إسلامية زمام الحكم في طهران. وهذا الكذب لا يستحق أن تبذل جهداً في دحضه، فأرشيف الإعلام الخليجي نفسه مليء بما يدحضه. وقبل أسبوع واحد فقط من رحيل الشاه إلى منفاه منبوذاً، نشرت صحيفة «الجزيرة» السعودية، في يوم 07 كانون الثاني 1979، مقابلة مع فهد بن عبد العزيز، وليّ العهد يومذاك والحاكم الفعلي للمملكة، قال فيها حرفياً: «إنّ المملكة تعلن تأييدها لنظام شاه إيران» (1). وأضاف فهد: «إنّ نظام الشاه يتمتّع بالشرعية، ونحن نؤيّده. وأحداث إيران الدموية (يقصد بذلك الثورة) لا مصلحة فيها لغير العدو الشيوعي». ولقد بلغ الجزع السعودي على الشاه، في أواخر أيام حكمه، حَدّاً جعل الملك خالد بن عبد العزيز يناشد الدول العربية لكي تقدّم لبهلوي كل نوع من المساعدة حتى ينقذ نظامه من الانهيار(2). وأمّا سعود الفيصل فقد بان الذعر من احتمال سقوط الشاه وانتصار الثورة الإيرانية أثناء حديثه مع السفير الأميركي في جدّة، في 01 كانون الثاني 1979. ولقد قال وزير الخارجية السعودي، وكأنه يتوسل السفير الأميركي: «ليس هناك بديل للشاه، وهو يحتاج منكم إلى دعم لوجستي»(3). وأقبح من هذه المواقف السعودية المعادية بسفور لإرادة الجماهير الإيرانية إبّان ثورتها، هو تصريح فهد بن عبد العزيز لجريدة «السياسة» الكويتية، في 16 آذار 1979، أي بعد نجاح الثورة بشهر واحد، فقد قال ولي العهد السعودي: «إنّ ما يحدث الآن في إيران خطر على الإسلام والمسلمين. إنها ثورة شوفينية تهدّد المنطقة. لقد أكّدت الأحداث توقعاتنا بأنّ أحداث الشغب التي تجري في إيران ليست إسلامية، ولكن تديرها أصابع شوفينية من أجل إقامة حكم شيوعي». والأعجب من جميع ما سبق من التصريحات السعودية المناوئة للنظام الجديد في إيران، هو حديث وزير الدفاع سلطان بن عبد العزيز لجريدة «السياسة» الكويتية، في 31 تموز 1979 (أي بعد نجاح الثورة بستة شهور كاملة). قال سلطان: «إنّ شاه إيران قدّم الكثير الكثير لشعبه غير أنّ الشيوعية الدولية لا تريد للعالم أن يهدأ». وأضاف سلطان: «إنّ أحداث إيران مقلقة، ولها ضحايا، ولها سلبيات... غير أنّ الذين يعيشون في إيران يدركون أن الشاه ما زال معه الجيش والبوليس والقوى المثقفة ورجال الاقتصاد وكل الذين يعرفون أن الشاه حقق الكثير لهم. كلهم معه». وختم الأمير سلطان تقديره الحصيف لما يجري في إيران، في صيف 79، بهذه العبارة التي تدلّ على رؤيته الثاقبة للأمور: «إنني، كعسكريّ، أرى أنّ ما يحدث الآن في إيران هو مجرد زوبعة سيجتازها الشاه».
عشرة ملايين دولار لاغتيال الإمام الخميني
وما زال الإعلام الخليجي يردّد بأنّ النظام الديني في إيران هو من بدأ بالأذية، والتهديد، والإساءة، والتدخل في الشؤون الداخلية، ومحاولة تصدير الثورة... والحقيقة أنّ القادة الإيرانيين صبروا أوّل الأمر على ما رأوه من بغض لهم، وتربّص بهم. ولم يردّوا على الكيد وأهله، حتى لم يعد يُحتمل الصبر والسكوت بعد التجبّر الذي سُلّط على المظلومين من أهل القطيف والأحساء في محرّم من سنة 1400 هـ، وما نالهم من القمع الدموي لأنهم تجرّؤوا على أداء شعائرهم الدينية علناً. وإنّ الشرّ السعودي لم يكتفِ، منذ الأشهر الأولى بعد قيام الثورة في إيران، بالكره والبغض والنفور، بل تجاوز ذلك فوصل إلى التآمر والإجرام والتخطيط لقصف مقرّ الإمام الخميني بالطائرات. وبحسب اعترافات الضابط طيار ناصر ركني منسّق الانقلاب العسكري
ضد النظام الإسلامي في إيران، فإنّ السعوديين قدّموا دعماً مالياً للانقلابيين قُدّر بعشرة ملايين دولار(4). ثمّ بعد أن بات الصدام الإيراني مع أميركا وشيكاً، في أواخر عهد الرئيس جيمي كارتر، أماط العداء السعودي لإيران اللثام عن وجهه، فأصبح مُشهراً بعد أن كان مضمراً. وفتح السعوديون القاعدة العسكرية في مطار الظهران، لطائرات الجيش الأميركي الذي كان يخطّط
حينذاك لضرب إيران. ثمّ بعد أن هاجم صدّام حسين الأراضي الإيرانية، في 22 أيلول 1980، واحتل جيشه أجزاء منها، لم يجد العاهل السعودي خالد بن عبد العزيز كلمات يبعثها لصدام، في تلك الأيام، أنسب من هذه: «إننا معكم في السابق والحاضر. وإننا معكم في حربكم العادلة لاستعادة سيادتكم على أراضيكم المسلوبة، وسيطرتكم الكاملة والشرعية عليها»(5).
ولم يظل الكيد السعودي كلمات تُساق لدعم صدّام، أو دولارات تُدفع لتمويل انقلاب أو اغتيال، ولا حتى قواعد تُفتح لأميركا كي تشنّ غاراتها على بلد مسلم جار... بل تجاوز العدوان إلى المشاركة الفعلية في الحرب ضدّ إيران. ففي نيسان 1981، قدّمت السعودية ستة مليارات دولار لنظام صدّام، وزوّدته بمئة دبابة محمّلة على شاحنات تسير إلى العراق عن طريق الكويت(6). ومع تطور مجريات الحرب أصبحت السعودية شريكة فعلية فيها، ففضلاً عن تزويد العراق بالمعلومات الاستخبارية، والمعطيات التي توفرها طائرات «الأواكس»، تعهدت السعودية أيضاً بدفع قيمة أجزاء كبيرة من مشتريات الأسلحة العراقية، ووضعت موانئها ومطاراتها تحت تصرف العراق لنقل البضائع والمعدات العسكرية إليه. وتولى السعوديون تسويق 1.6 مليون برميل من النفط العراقي الذي صار يعبر أراضيهم بواسطة أنبوب يمتد من حقول البترول قرب البصرة حتى ميناء ينبع على البحر الأحمر، ومن ثم يباع في الأسواق الدولية. وكانت كل هذه سياسات سعودية عدائية ضد إيران في زمن تخوض فيه حرباً ضروساً.

سفك دماء الحجاج في البيت الحرام
ويشتكي إعلام آل سعود لأنّ النظام الإسلامي في إيران صعّد من لهجته ضدّ السعودية، وتوعّدها، وشكّك في شرعية نظامها، وهاجم مواقفها وتبعيتها لأميركا، وتبنّى المعارضين لسياستها، وأقام في مواسم الحج مظاهرات ولاء للإسلام، وبراء من المستكبرين وأتباعهم... وكل ذلك صحيح، لكنّه أقلّ مما يلزم للرد على الكيد السعودي. إنّ آل سعود خاضوا حرباً قذرة، في أواسط الثمانينيات، فأغرقوا الأسواق بالنفط حتى نزلوا بسعره إلى أقل من سبعة دولارات للبرميل الواحد. وهذا ثمن يكاد لا يغطي تكاليف الإنتاج. غير أنّ السعوديين قبلوا أن يؤذوا أنفسهم أملاً في انهيار الاقتصاد الإيراني (والسوفياتي كذلك).
والكيد السعودي لا يقتصر على دعم المجهود الحربي ضدّ إيران، أو إيذائها ماليّاً، أو تمويل الانقلابات فيها، أو التحريض الطائفي ضدّ شعبها، أو التأليب السياسي والإثني لقومياتها... بل إنّ شرّ آل سعود لاحَقَ الإيرانيين وهم في البيت الحرام، في الشهر الحرام، يؤدّون مناسك الحجّ. ففي يوم الجمعة 31 تموز 1987، فتح الجنود السعوديون نيران رشاشاتهم على
جموع المتظاهرين من الحُجّاج الإيرانيين الذين قُدّر عددهم بعشرات الألوف، فقتلوا بالرصاص، في ساعة واحدة، أكثر من أربعمئة حاج، وجرحوا الآلاف. وكان ذنب الإيرانيين أنهم هتفوا بالموت لأميركا وإسرائيل.
ويحاجج الإعلام السعودي بأنّ إيران تمدّ نفوذها في كل مكان. ولكن لماذا لا يحقّ لإيران ما يحق للسعودية التي تبشّر بمذهبها، وتنشر أفكارها، وتمدّ نفوذها من الفيليبين إلى الأرجنتين... وفوق ذلك ألم يسعّر السعوديون نيران الحروب الأهلية أينما حلّ ركبهم، في اليمن وسوريا والعراق وأفغانستان ولبنان... ويزعم السعوديون إنّ الخميني ومن اتّبعوا خطّه هم الذين نشروا الطائفية في المنطقة، ولم يكن التعصّب المذهبي موجوداً قبل ظهورهم. هل يدري هؤلاء ماذا طلب ابن سعود يوم غزا جيشه الكويت، في سنة 1920، ففتك بأهلها، وحاصرهم داخل حصن في الجهراء؟ كان أبرز مطالب عبد العزيز بن سعود التي بعث بها إلى الشيخ سالم بن مبارك الصباح، هو إخراج الشيعة من الكويت لأنهم مشركون، حسب المعتقد الوهابي. وإنّ هذا مثال واحد بسيط للكراهية المذهبية عند آل سعود، حصل قبل قيام الخميني بستين عاماً. بل، وقبل أن يولد الخميني بمئة عام، من تراه غزا كربلاء، وفتك بأهلها، وانتهك مرقد الإمام الحسين ودنّسه؟ ومن الذي هدم أضرحة أئمة أهل البيت في البقيع، يوم اجتاح جيشه الحجاز سنة 1926؟ ومن الذي دمّر آثار مكة والمدينة، وما زال يفعل إلى يوم الناس هذا، حتى محا التراث الإسلامي محواً؟ ومن أين يطلّ على الناس شيوخ الحقد والبغضاء والكراهية؟ من ذا الذي يموّلهم ويؤلّبهم ويشجّعهم؟ ومن أيّ منبع يستلهم الدواعش أفكارهم، ويعتنقون معتقداتهم، ويأخذون فتاويهم؟ من أشعل الفتنة الطائفية في العراق؟ من أين دخل الغزاة الأميركيون، أصلاً، إلى العراق؟ من الذي يحتمي بالأميركيين، ويتوسل الآن بالإسرائيليين؟ من الذي كشفت برقيات ويكيليكس أنه يحرّض الأميركيين على غزو إيران، لـ«قطع رأس الأفعى»؟
ليس أمرا جديداً البَغْيُ السعودي. وليس جديداً ما يحاوله ابن سلمان ضدّ إيران. لقد حاول من جاء قبله، ولم يفلحوا، لأنه لا يفلح الظالمون.

الهوامش:
1- أفردت جريدة «الجزيرة» السعودية تصريح فهد الذي يقول فيه «إنّ المملكة تعلن تأييدها لنظام شاه إيران»، وجعلته في صدر صفحتها الأولى، ونشرته بالخط العريض، واختارته عنواناً للمقابلة. ولم يكن كل ذلك إلا رسالة مباشرةً إلى الشاه بأنّ آل سعود معه.
2- راجع تقرير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية عن «الأزمة الإيرانية وانعكاساتها الدولية»، والذي نشرته مجلة «السياسة الدولية»، في عددها الخامس والخمسين، (القاهرة، كانون الثاني 1979)، ص 22-23
3- وجد الطلبة الإيرانيون حديث وزير الخارجية السعودي مع السفير الأميركي في بلاده ضمن وثائق السفارة الأميركية في طهران، لمّا استولوا عليها. ونُشِرت هذه الوثيقة المؤرخة في 3 كانون الثاني 1979، بعنوان «وجهة نظر السعودية في أحداث إيران»، في كتاب بعنوان «مجموعة وثائق السفارة الأميركية في طهران»، منشورات الوكالة الدولية (طهران، 1990) ص 17
4- محمد سالم الكواز، العلاقات السعودية الإيرانية 1979-2011: دراسة تاريخية سياسية، منشورات دار غيداء (عمّان، 2014) ص 28
5- المصدر السابق ص 30
6- المصدر السابق ص 31