تكمن الطريقة الوحيدة لإنهاء جائحة كوفيد-19 من خلال تحصين عدد كافٍ من الناس ضدّ الفيروس حول العالم. شعار «لا أحد في أمان إلى أن نكون جميعاً آمنين» يجسّد الواقع الوبائي الذي نواجهه. يمكن أن يؤدي تفشي فيروس «كورونا» في أي مكان في العالم إلى ظهور متحوّر جديد مقاوم للقاحات الموجودة، ما يجبرنا جميعاً على العودة إلى الإغلاقات التامة أو الجزئية. ونظراً لظهور طفرات جديدة في الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا والمملكة المتحدة وأماكن أخرى، فإن هذا التهديد ليس مجرّد تهديد نظري.الأسوأ من ذلك، أن إنتاج اللقاحات بعيد كثيراً عن توفير وتقديم الكمّ المطلوب لوقف انتشار هذا الفيروس والمقدّر بما بين 10 مليارات إلى 15 مليار جرعة. بحلول نهاية نيسان الماضي، أُنتج 1.2 مليار جرعة فقط في جميع أنحاء العالم. وبهذا المعدل، سيظلّ مئات الملايين من الأشخاص في البلدان النامية غير محصنين حتى عام 2023 على أقلّ تقدير. لذا، إن إعلان إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، انضمامها إلى جانب 100 دولة أخرى تريد تحقيق إعفاء طارئ من الالتزام بقوانين منظمة التجارة العالمية الخاصة بحقوق الملكية الفكرية، التي أتاحت للشركات احتكار اللقاحات، هو خبر مهم جداً. فالمفاوضات حول اتفاقية منظمة التجارة العالمية، لإزالة هذه الحواجز بشكل مؤقّت، تخلق المسار القانوني الذي تحتاج له الحكومات والشركات المصنعة في جميع أنحاء العالم لتوسيع نطاق إنتاج اللقاحات.
في الخريف الماضي، جنّد الرئيس السابق دونالد ترامب مجموعة من حلفائه من الدول الغنية، لعرقلة أي مفاوضات من هذا القبيل. لكن الضغط على إدارة بايدن لفكّ هذا الحصار الذاتي المدمّر إلى تزايد، فقد حصل على دعم 200 حائز على جائزة نوبل، بالإضافة إلى رؤساء دول وحكومات سابقين (بما في ذلك العديد من الشخصيات النيوليبرالية البارزة)، و110 أعضاء في مجلس النواب الأميركي، و10 أعضاء من مجلس الشيوخ، و400 مجموعة من مجموعات المجتمع المدني في أميركا، و400 برلماني أوروبي، وغيرهم الكثير.

مشكلة يمكن تفاديها
السبب الأساسي وراء ندرة لقاحات كوفيد-19 في العالم النامي يعود إلى جهود مصنّعي اللقاحات للحفاظ على سيطرتهم الاحتكارية لزيادة أرباحهم. فقد رفضت شركتا Pfizer وModerna، صانعتا هذين اللقاحين بتقنية الـ«mRNA» الفعّالة للغاية، الاستجابة لطلبات عديدة من قبل مصنعي الأدوية المؤهّلين الذين يسعون إلى إنتاج لقاحات هاتين الشركتين. ولم تشارك أي شركة منتجة للقاح، تقنياتها مع البلدان الفقيرة عبر تجمّع الوصول إلى تكنولوجيا COVID-19 الطوعي التابع لمنظمة الصحة العالمية.
أما تعهدات الشركات بإعطاء عدد من جرعات اللقاح إلى منظمة COVAX، والتي بدورها ستوجّهها إلى السكان الأكثر عرضة للخطر في البلدان الفقيرة، ليست بديلاً فعالاً. ففيما قد تخفف هذه الوعود من شعور شركات الأدوية بالذنب، إلا أنها لن تكون ذات تأثير مهم على الإنتاج والعرض العالمي للقاحات.
وتركّز شركات الأدوية، بصفتها كيانات تهدف إلى الربح، على جني الأرباح في المقام الأول، وليس على الصحّة العالمية؛ هدفها بسيط: الحفاظ على أكبر قدر ممكن من القوّة السوقية لأطول فترة ممكنة من أجل تعظيم الأرباح. وفي ظل هذه الظروف، يتعين على الحكومات التدخل بشكل مباشر لحل مشكلة العرض والإنتاج المحدود من اللقاحات.

حلّ منطقي
في الأسابيع الأخيرة، اجتاحت واشنطن جحافل من «لوبي» شركات الأدوية للضغط على القادة السياسيين لعرقلة تنازل منظمة التجارة العالمية المؤقّت عن قوانين الملكية الفكرية. فلو كان هذا القطاع ملتزماً بإنتاج المزيد من جرعات اللقاح بقدر التزامه بإنتاج حجج مضلّلة، لكانت مشكلة النقص في اللقاحات قد حُلّت الآن.
وبدلاً من ذلك، تعتمد شركات الأدوية على عدد من الادعاءات المتناقضة. وتصرّ على عدم الحاجة إلى التنازل عن حقوق الملكية الفكرية، لأن إطار منظمة التجارة العالمية الحالي مرن بدرجة كافية ليسمح بالوصول إلى التكنولوجيا. كما تجادل بأن التنازل سيكون غير فعال، لأن المصنعين في البلدان النامية يفتقرون إلى الوسائل اللازمة لإنتاج اللقاح.
وفي الوقت نفسه تشير شركات الأدوية أيضاً، إلى أن هذا الإعفاء المطلوب من منظمة التجارة العالمية، سيكون فعالاً، لكن بشكل مفرط. فكيف نفهم غير هذا من تحذيراتهم بأن التنازل المؤقّت عن قوانين الملكية الفكرية سيقوّض حوافز البحث، ويقلل من أرباح الشركات الغربية، ويساعد الصين وروسيا على هزيمة الغرب جيوسياسياً؟
من الواضح أن إعفاء الشركات من التزام قوانين الملكية الفكرية سيُحدث فرقاً حقيقياً، لهذا السبب تعارضه شركات الأدوية بشدة. كما يؤكد السوق هذا الرأي، وهو ما يتضح من الانخفاض الحادّ في أسعار أسهم الشركات المصنعة للقاحات بعد إعلان إدارة بايدن التفاوض على الإعفاء المؤقت من الالتزام بقوانين حقوق الملكية الفكرية.

كذب الـ«بيغ فارما»
بعد سنوات من حملات التوعية وملايين الوفيات بسبب وباء HIV، وافقت دول منظمة التجارة العالمية على الحاجة إلى ترخيص الملكية الفكرية الإلزامي (وهو عندما تسمح الحكومات للشركات المحلية بإنتاج منتج دوائي حاصل على براءة اختراع دون موافقة مالك براءة الاختراع) لضمان أوسع وصول إلى الأدوية. لكن شركات الأدوية الكبرى لم تتخلَّ أبداً عن بذل كل ما في وسعها لتقويض هذا الأمر. ويعود موقف شركات الأدوية هذا إلى معارضتها الشديدة لفكرة التنازل عن حقوق الملكية الفكرية. ولو كان نظام الملكية الفكرية السائد في قطاع الدواء أكثر ملاءمة للمصلحة العامّة للبشرية، لكان قد تم بالفعل تكثيف إنتاج اللقاحات والعلاجات.
إن الحجّة القائلة بأن البلدان النامية تفتقر إلى المهارات اللازمة لتصنيع لقاحات كوفيد-19 على أساس التقنيات الجديدة (مثل تقنية الـmRna) هي حجة زائفة. فعندما اتفق صانعو اللقاحات في الولايات المتحدة وأوروبا على شراكات مع منتجين أجانب، مثل معهد سيروم في الهند (أكبر منتج للقاحات في العالم) وAspen Pharmacare في جنوب إفريقيا، لم تواجه هذه الأطراف مشاكل تصنيع ملحوظة. هناك العديد من الشركات والمنظمات حول العالم، التي تمتلك نفس الإمكانات للمساعدة في تعزيز إنتاج اللقاح، وهي تحتاج فقط إلى الوصول إلى التكنولوجيا والمعرفة الخاصتين بتصنيع هذا اللقاح.
ومن جهته، حدّد «تحالف ابتكارات التأهب في مواجهة الأوبئة» نحو 250 شركة يمكنها تصنيع اللقاحات. وقال مندوب جنوب إفريقيا في منظمة التجارة العالمية: «تتمتع البلدان النامية بقدرات علمية وتقنية متقدمة... ويعود سبب النقص في إنتاج وتوريد اللقاحات إلى أصحاب الحقوق أنفسهم، الذين يدخلون في اتفاقيات تقييدية تخدم أغراضهم الاحتكارية الضيقة، فيضعون أرباحهم قبل حياة الناس».
وفي حين أنه قد تكون عملية تطوير تقنية لقاح mRNA أمراً صعباً ومكلفاً، إلا أن هذا لا يعني أن عملية إنتاج الجرعات هي أمر خارج عن قدرة الشركات الأخرى حول العالم. فبحسب مدير الكيمياء السابق في شركة موديرنا، صهيب صديقي، أنه عبر المشاركة الكافية للتكنولوجيا والمعرفة، يجب أن يكون العديد من المصانع الحديثة قادراً على البدء في تصنيع لقاحات mRNA في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر.
ويتمثل موقف شركات الأدوية الكبرى في الادعاء بعدم الحاجة إلى التنازل عن حقوق الملكية الفكرية في ضوء «المرونة» الحالية لمنظمة التجارة العالمية. ويشير إلى أن الشركات في البلدان النامية لم تسعَ للحصول على التراخيص الإلزامية لإنتاج اللقاحات. لكن قلّة اهتمام هذه الشركات بالحصول على التراخيص، تعكس حقيقة أن شركات الأدوية الغربية بذلت كل ما في وسعها لخلق عقبات قانونية بخصوص براءات الاختراع وحقوق النشر والتصميم الصناعي الخاص و«حصريات» الأسرار التجارية التي قد لا يغطيها مدى المرونة الموجود في النظام الحالي.
بالإضافة إلى ذلك، وبموجب قواعد منظمة التجارة العالمية، يُعتبر الترخيص الإلزامي لتصدير اللقاحات أكثر تعقيداً من ترخيص الإنتاج، رغم أن هذه التجارة ضرورية لزيادة إمدادات اللقاحات عالمياً. فعلى سبيل المثال، لا يُسمح لشركة Biolyse الكندية لصناعة الأدوية بتصدير نسخ عامة من لقاح Johnson & Johnson إلى البلدان النامية، بعدما رُفض طلبها للحصول على ترخيص لهذا الأمر.
ويعتبر الخوف عاملاً آخر يساهم في نقص إمدادات اللقاح، سواء كان على مستوى الشركات أو على مستوى الدول. العديد من هذه الدول تشعر بالقلق من أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قد تقطعان المساعدات عنها أو تفرضان عقوبات عليها، إذا أصدرت تراخيص لإنتاج اللقاحات، ويأتي هذا الخوف بعد عقود من التهديدات التي تمارسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بحقّ هذه الدول. لكن مع وجود تنازل مؤقّت عن قانون حماية الملكية الفكرية من منظمة التجارة العالمية، ستكون هذه الحكومات والشركات محمية من أي دعاوى قضائية قد تلجأ إليها شركات الأدوية الكبرى.

لقاح الشعوب
نصل الآن إلى الحجة الثالثة التي تقدمها شركات الأدوية الكبرى وهي أن التنازل عن الملكية الفكرية من شأنه أن يقلل الأرباح وبالتالي يثبط عمليات البحث والتطوير في المستقبل. هذا الادعاء أيضاً خاطئ. فلن يؤدي التنازل عن الملكية الفكرية إلى إلغاء المتطلبات القانونية على الصعيد المحلّي لكل شركة، والتي تقضي بدفع إتاوات لأصحاب الملكية الفكرية أو غيرها من أشكال التعويض. كما أنه من خلال إزالة خيار الاحتكار المتمثل في منع المزيد من الإنتاج ببساطة، فإن تنازلاً كهذا يزيد حوافز شركات الأدوية للدخول في ترتيبات طوعية مع الشركات المحتكرة.
وحتى مع وجود إعفاء عن حقوق الملكية من منظمة التجارة العالمية، فإن صانعي اللقاحات قادرون على جني أموال طائلة. فمن المتوقع أن تصل عائدات لقاحي شركتي Pfizer وModerna في عام 2021 إلى 15 مليار دولار و18.4 مليار دولار لكل منها على التوالي، رغم أن الحكومات موّلت الكثير من الأبحاث الأساسية وقدمت أموالاً طائلة مقدّماً من أجل طرح اللقاحات في السوق.
ومن أجل الوضوح، لا تكمن مشكلة شركات الأدوية في حرمانها من عائدات عالية على استثماراتها، بل إن هذه الشركات ستفقد أرباحها الاحتكارية، بما في ذلك تلك التي ستحصل عليها من الجرعات السنوية المستقبلية التي ستُباع بلا شك بأسعار مرتفعة في البلدان الغنية.
وأخيراً، عندما تسقط جميع حججها السابقة، فإن الملاذ الأخير لشركات الأدوية هو القول بأن التنازل من شأنه أن يساعد الصين وروسيا في الوصول إلى التكنولوجيا الأميركية. لكن هذا الادعاء كاذب، لأن اللقاحات ليست من صنع الولايات المتحدة في المقام الأول. فيجري البحث التعاوني حول تقنية mRNA وتطبيقاتها الطبية عبر البلاد منذ عقود. فقد حقق العالم الهنغاري كاتالين كاريكو الاختراق الأولي في هذا المجال عام 1978، واستمر العمل منذ ذلك الحين في تركيا وتايلاند وجنوب إفريقيا والهند والبرازيل والأرجنتين وماليزيا وبنغلاديش ودول أخرى بما فيها المعاهد الوطنية الأميركية للصحة.
أضف على ذلك أن تقنية mRNA في اللقاح الذي تنتجه شركة Pfizer هي ملك لشركة BioNTech (شركة ألمانية أسسها مهاجر تركي وزوجته)، وهي قد منحت المنتج الصيني Fosun Pharma ترخيصاً لتصنيع لقاحها. إلى جانب ذلك، فإن الصين في طريقها لتطوير وإنتاج لقاحات mRNA الخاصة بها. وأحد هذه اللقاحات في المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، وآخر يمكن تخزينه في درجة حرارة الثلاجة، ما يلغي الحاجة إلى الحرارة المنخفضة.
في أي حالة يمكن أن تخسر الولايات المتحدة؟
بالنسبة إلى الذين يركزون على القضايا الجيوسياسية، يجب أن يكون مصدر القلق الأكبر هو فشل أميركا حتى الآن في الانخراط في دبلوماسية بنّاءة خاصّة بجائحة كوفيد-19. فهي تمنع تصدير اللقاحات التي لا تستخدمها حتى. وفقط عندما بدأت موجة ثانية من العدوى بتدمير الهند، رأت أنه من المناسب تحرير جرعات AstraZeneca التي لم تستخدمها. في هذا الوقت، لم تكتفِ روسيا والصين بتوفير لقاحاتهما، بل شاركتا في نقل التكنولوجيا والمعرفة أيضاً، وأقامتا شراكات حول العالم، وساعدتا في تسريع جهود التلقيح العالمية.
مع استمرار وصول الإصابات اليومية إلى مستويات عالية جديدة في بعض أنحاء العالم، إن فرصة ظهور متحوّرات جديدة من الفيروس تشكّل خطراً متزايداً علينا جميعاً. وسيتذكر العالم الدول التي ساعدت، وفي المقابل سيتذكّر الدول التي وضعت العقبات خلال هذه اللحظة المصيريّة.
تم تطوير لقاحات كوفيد-19 من قِبل علماء من جميع أنحاء العالم، وذلك بفضل العلوم الأساسية التي تدعمها العديد من الحكومات. ومن العدل أن تجني شعوب العالم فوائد هذه الجهود والاستثمارات. هذه مسألة أخلاقية ومصلحة ذاتية. يجب ألا ندع شركات الأدوية تضع الأرباح قبل الأرواح.


* نُشر هذا المقال على موقع Project-syndicate في 6 أيار 2021 بعنوان «هل يطيل جشع الشركات مدّة الوباء؟»



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا

تابع «رأس المال» على إنستاغرام