صوفيا | في الدقيقة الصفر، في الساعة الصفر، في 1/1/2000، أطل الرئيس الروسي حينذاك، بوريس يلتسين، من على شاشات التلفزيون ليلقي كلمة التحية التقليدية بمناسبة رأس السنة الجديدة. لكنه بدلاً من ذلك قال إنه يتنازل عن السلطة كلياً لاحد اشخاص الظل في بطانته وهو فلاديمير بوتين. ظن الجميع حينذاك أن هذا الاعلان ليس اكثر من مجرد نقل عادي للسلطة من شخص مريض إلى شخص اكثر شباباً وحيوية. وأتت الاحداث لاحقاً لتؤكد أن هذه النقلة كانت انقلاباً فعلياً على انقلاب ميخائيل غورباتشوف ويلتسين.
خلال المدة الاولى لحكمه، كان الهدف الاكبر الذي عمل له بوتين هو اعادة روسيا إلى دورها التاريخي كدولة عظمى: داخلياً وخارجياً، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
حكم بوتين لفترتين رئاسيتين حتى 2008، ثم سلم الرئاسة إلى احد معاونيه ديمتري مدفيديف، وتسلّم هو رئاسة الوزراء حتى 2012، ثم عاد إلى الرئاسة من جديد. ويبحث الآن في البرلمان مسألة تعديل الدستور وتمديد فترة الرئاسة إلى 6 سنوات، وهناك توقعات أن بوتين سيكون من حقه الدستوري (طبعاً!) أن يحكم فترتين رئاسيتين جديدتين اي 12 سنة اخرى بعد نهاية الفترة الرئاسية الحالية.


ترويض الشيشان

واجه بوتين في بداية رئاسته الاولى العديد من الملفات، ابرزها كان ملف حرب الشيشان التي اشعلها بوجهه الملياردير الروسي، بوريس بيريزوفسكي، الفار إلى لندن، والذي سافر سراً إلى الشيشان، بالتعاون مع اميركا وتركيا وغيرهما من الدول العربية. لكن بوتين ارسل الجيش الروسي إلى الشيشان بخطة حاسمة لمنع اميركا من ايجاد «رقبة جسر» داخل الفدرالية الروسية، وخلال أشهر قليلة تم القضاء على رؤوس الفتنة في الشيشان، وسحقت تماماً «القوات الارهابية»، وتحولت القضية الشيشانية من مشكلة سياسية ــ عسكرية للدولة الروسية، يقع ثقل حلها على الجيش الروسي، إلى قضية انسانية لجماهير لاجئين ومشردين في الجبال بحاجة إلى الغذاء والدواء. فعاد الجيش الروسي إلى ثكنه وتولى الصليب الاحمر الروسي والهلال الاحمر الشيشاني قضية اللاجئين. وفي الوقت ذاته تم «فتح» الحي الشيشاني في موسكو الذي كانت تسيطر عليه المافيا الشيشانية وشبه المغلق على الروس. وسحقت المافيا الشيشانية.


الإنجازات الداخلية

نجح بوتين داخلياً في تهميش المعارضة ذات الميول الغربية وتأليب غالبية الشعب الروسي ضدها. وصارت الاجهزة الامنية هي الملاذ والحارس لرؤوس المعارضة المفضوحين بعلاقاتهم الغربية، لحمايتهم من غضب الشعب وانتقامه.
وشكل بوتين حزباً جديداً هو حزب «روسيا الموحدة» الذي فاز في جميع الانتخابات التي جرت لاحقاً. واصبحت المعارضة مقتصرة على الحزب الشيوعي والاحزاب اليسارية الاخرى، والقوميين بزعامة جيرينوفسكي، وهي كلها احزاب معادية للغرب اكثر من حزب بوتين. وبعد القضاء على رؤوس الاحتكارات المالية المرتبطة بالغرب، التفت بوتين نحو ضبط التسيب الاقتصادي، ونجح في ذلك نجاحاً كبيراً. وأجبر جميع الشركات على الانضباط ودفع الضرائب المستحقة عليها، وكان يذهب هو شخصياً ويحضر اجتماعات بعض المجالس الادارية للشركات المخالفة ويطلع على حساباتها السابقة والحالية ويكشف المخالفات ويجبر اعضاء مجلس الادارة على التوقيع شخصياً على التعهد بالتقيد بدفع الضرائب القانونية. وبعد ذلك من يتلاعب او يتهرب: له السجن. وقد سجن بالفعل عشرات الالاف من الرأسماليين المتلاعبين والمتهربين.


الجيش الروسي

بعد الانتهاء من تنظيم الامور الداخلية للبيت الروسي، التفت بوتين إلى الجبهة العسكرية، فأزيل الغبار عن الصواريخ عابرة القارات المزودة بالرؤوس النووية وأعيد توجيهها إلى الاراضي والقواعد الاميركية والاطلسية في كل ارجاء الكرة الارضية، وحينما أخذت القيادة الصينية تغازل اميركا أفهمت تلك القيادة أن دينغ هسياو بينغ، يمكنه أن يذهب إلى اميركا ويلبس قبعة الكابوي، وأن الطبقة الرأسمالية الصينية يمكنها أن تتاجر مع اميركا وتشتري سندات الخزينة الاميركية، لكن الدولة الصينية الجارة لروسيا لا يمكنها أن تسير مع اميركا ضد روسيا، والا فإنها ستمد حدودها إلى حدود الهند، ولتحمها اميركا اذا استطاعت(!). «فهمت» الصين الرسالة التي يقتضيها التاريخ والجغرافيا وسارت مع روسيا في مجموعة «شانغهاي» ومجموعة «البريكس»، وصار دور المندوب الصيني في مجلس الامن الدولي أن ينتظر زميله الروسي حتى يرفع يده فيرفعها، او يخفض يده فيخفضها. واستفادت سلطة بوتين من ارتفاع اسعار النفط والغاز عالمياً كي تعيد تحريك الاقتصاد والصناعة الروسية بقوة، بدءاً من المجمع الصناعي ــ العسكري، الذي تحول إلى نقطة الارتكاز لتحريك الاقتصاد الروسي برمته. ووُضع برنامج لتحديث الجيش الروسي كلياً حتى سنة 2020، كي يتحول إلى جيش اقل عدداً ولكنه مؤلل كلياً والكتروني كلياً. وبموجب هذا المشروع تزيد نسبة الضباط كثيراً إلى نسبة الجنود العاديين، اكثر بكثير مما كان في السابق. وفي نطاق قوات الامن جرى رفع الاجور اضعافاً مضاعفة حتى اصبحت توازي اجور رجال الامن في الدول الغربية المتطورة. وعلى المستوى العسكري ايضاً واجهت السلطة البوتينية مشكلة «صغيرة» اخرى هي نشر الدرع الصاروخية الاميركية في اوروبا الشرقية، وكذلك في تركيا، التي تطال بسهولة الاراضي الروسية. فقامت بإرسال صواريخ الاسكندر المرعبة إلى منطقة كاليننغراد، المحاذية لبولونيا، وأفهمت بولونيا وتشيكيا أنهما تعرضان نفسيهما للمحو من الخريطة. وذهب بوتين إلى تركيا وقال لرئيس الحكومة رجب طيب اردوغان إن المدى الراداري لصواريخ باتريوت الاميركية يدخل بضع عشرات الكيلومترات، وأنه اذا طار صاروخ اميركي واحد باتجاه الاراضي الروسية فإن كل تركيا ستطير إلى العالم الآخر. وقبل أن ينهي بوتين شرب القهوة التركية مع اردوغان، كان الاميركيون يسحبون كل الباتريوت من قرب الحدود الروسية ويحشرونها على الحدود مع سوريا من اجل نشر «الديموقراطية» الاميركية بواسطة «جبهة النصرة» القاعدية.


الغاز الروسي يغزو اوروبا

ادراكاً من السلطة الروسية لبداية العد العكسي لشح مكامن النفط والغاز الطبيعي في «العالم الغربي»، اتخذت السلطة قرارها الجيوستراتيجي بالشروع في مد انابيب النفط والغاز باتجاه اوروبا، لضمان الامن الطاقوي لاوروبا من قبل روسيا بالتحديد، ورفع يد الوصاية الطاقوية لاميركا عن القارة القديمة، على امل الحصول من اوروبا على التكنولوجيا المتطورة وتأمين السلام العالمي.
وفي هذا الصدد، نشأت مشكلة «صغيرة» نسبياً، هي مشكلة اوكرانيا التي، تحت تأثير السياسة الاميركية والرغبة في الانضمام إلى الحلف الاطلسي ضد روسيا، ارادت ابتزاز روسيا في ما يخص مد انابيب الغاز عبر اراضيها نحو اوروبا. فكان القرار الروسي بالالتفاف ما بعد اوكرانيا ومد انابيب الغاز والنفط عبر بحر البلطيق والبحر الاسود وبيلاروسيا، علماً أن هذه الانابيب ستكلف عشرات مليارات الدولارات الاضافية. الا أنها تحرر روسيا من الاملاءات الاطلسية والاميركية بواسطة اوكرانيا. وهكذا حرمت اوكرانيا نفسها من مداخيل ترانزيت الغاز إلى اوروبا، وحرمت نفسها من اسعار الغاز التفضيلية، وأصبحت مجبرة على أن تدفع اسعار الغاز باسعار السوق الدولية، وأفهمت اميركا أن احتمال ادخال اوكرانيا في الاطلسي ستدفع اميركا بالذات ثمنه.


القضاء على الفساد

مثلما يحدث في كل مكان في العالم، بدأت روائح الفساد تفوح من بعض رجالات الحزب الحاكم «روسيا الموحدة»، بمن فيهم برلمانيون منتخبون من الشعب. ولدى وقوع الازمة المالية في قبرص، تبين أن الكثير من رجال السلطة الروسية من حزب «روسيا الموحدة» يملكون حسابات خارجية واسهماً في شركات «الاوف شور» في قبرص وغيرها. فحرض بوتين بعض انصاره من المستقلين على تدوين عريضة تطالب بحل البرلمان واجراء انتخابات، وبدأ جمع التواقيع على العريضة. كذلك عمد بوتين إلى النأي بنفسه عن حزب «روسيا الموحدة»، ودعم تشكيل «جبهة شعبية شاملة» تدعمه إلى جانب، وبمعزل عن حزب «روسيا الموحدة». وسيخوض رجال هذه الجبهة الانتخابات بشكل فردي وليس كلائحة حزبية. ولهذه الغاية طرح في البرلمان موضوع تعديل قانون الانتخابات ليصبح نصف النواب ينتخبون باللوائح الحزبية على الاساس النسبي، والنصف الآخر ينتخبون فردياً بموجب النظام الاكثري، وهكذا يفوز حزب «روسيا الموحدة» بالاكثرية في النصف النسبي، وتفوز «الجبهة الشعبية الشاملة» بالاكثرية في النصف الاكثري. ومن اجل توجيه ضربة قاضية لظواهر الفساد واستغلال السلطة، صدر قرار يلزم جميع الموظفين الكبار بإغلاق حساباتهم الخارجية في مدة ثلاثة اشهر، وبتقديم كشف حساب للدوائر المالية تحت عنوان «من اين لك هذا» و«هل دفعت الضرائب المستحقة»، وطبعاً مُنع الموظفون الكبار من فتح حسابات خارجية من الآن فصاعداً.

يحكم باسم الشعب

يحيط بوتين نفسه بلجنة مستشارين تشمل اختصاصاتها جميع الاختصاصات والقطاعات في الدولة، وهي بمثابة «وزارة ظل» او الاصح «وزارة فوق الوزارة». وبناء على قرارات هذه اللجنة يعمل بوتين لتمرير القرارات عبر القنوات القانونية المختصة. ومن الوجه الخارجي للصورة يطرح البعض الفكرة عن بوتين بأنه دكتاتور. لكن الواقع يقول إن بوتين ليس دكتاتوراً، فالدكتاتور يتجاوز مؤسسات الدولة والقانون، ويدمرهما، ويضع نفسه فوق الدولة وفوق القانون، لكن بوتين يعمل العكس تماماً، اي أنه يعزز الدولة ويعزز القانون ويجعل الارادة الشعبية مصدر كل السلطات. ويطرح البعض الآخر فكرة أن بوتين هو قيصر جديد، كلي الارادة وكلي السلطة. قد يكون ذلك اقرب إلى الواقع، ولكن مع تعديل بسيط، هو أن بوتين يحكم باسم الشعب ولمصلحة الشعب. ويمكن حينذاك القول إنه: قيصر شعبي لروسيا العظمى. ولمن لا يعرف نقول إن الروس لا يسمّون انفسهم «روساً» هكذا ببساطة، بل يسمون انفسهم «فيليكو ــ روس» اي «الروس العظام». ولعله ينبغي الاعتراف بأن «الروس العظام» يستأهلون «قيصر شعبياً عظيماً لروسيا العظمى».



محاربة الرأسماليين

في السنوات الأولى لحكم بوتين لم يكد يمر اسبوع الا وكانت وسائل الاعلام تنشر نبأ اغتيال هذا وذاك من رؤساء البنوك والشركات الكبرى والتلفزيونات والصحف. وصار بناء القبور فائقة الفخامة، للمليارديرية الجدد الذين اخذوا يسقطون قتلى تباعاً، صناعة مزدهرة. ودائماً كان يختفي القتلة ولم تعثر الدولة الروسية على اي «قاتل» إلى اليوم. وتم اعتقال ميخائيل خودوركوفسكي صاحب شركة «يوكوس» النفطية ذات الرأسمال البالغ 800 مليار دولار وزج به في السجن ولا يزال. وحكم بالسجن 20 سنة بتهمة التهرب من دفع الضرائب. وكل سنة تساق ضده تهمة جديدة ومحاكمة جديدة واحكام جديدة. وطبعاً وضعت الدولة، بزعامة بوتين، يدها على «يوكوس» وحولتها إلى شركة ملك الدولة. وفر من فر من المليارديرية إلى بريطانيا واسرائيل، كبوريس بيريزوفسكي (الصورة) وليف ليفايف ومايكل تشورني.