جمع رجاله، تأكّد من سلامة قواربه ومن كميّة عتاده وذهب لاستكشاف أميركا أو جُزر الهند الغربيّة كما كان يعتقد، فارتكب المجازر وكتب التاريخ على هواه. في مذكراته وصف كريستوفر كولمبوس «الهنود الحمر» بأنهم همجيون، متوحشون، سُذّج بسطاء، ولا زلنا بمعظمنا، حتى يومنا هذا نتبنى السرديّة التي راجت عن «سكان أميركا الأصليين» أو قبائل الآزتيك والإنكا والمايا. إننا نسميهم، وفي الكثير من الأحيان لا إرادياً بـ«الهنود الحمر»، بناءً على ما أسماهم، وسرعان ما تقفز في مخيلتنا صورتهم كقبائل بدائية ترتدي الريش وأوراق الشجر، وتقفز حول النّار تحت النجوم في مشهدٍ يرمز إلى طقوسٍ لا يمارسها سوى المجانين أو «غير المتحضرين». يزعم كولمبوس، وهو زعمٌ باطل، أن «الهنود الحمر» تحرروا من نير الظلامية والجهل بفضله. وقد اقتحم الأخير ومن بعده كورتيس وغيرهم الكثير أراضي الأميركيتين، ونهبوا ما نهبوه من خيرات البلاد، ملطّخين الصخور والأشجار بدماء سكانها الأصليين. قبل كولمبوس بأكثر من ألفي سنة، إذا سألت من هُم أجداد المصريين، يأتيك الجواب مُباشرةً: هم الفراعنة. ذلك «الاسم» الذي اقترن بالديكتاتورية والظلم والبطش، وتضيف الرواية أنه ولكي تحصل عليه، فعليك أن تكدّ وتجهد في توليد الشرّ. من هذا الصيت بالذات، ولد المثل الشعبي الشهير: «يا فرعون مين فرعنك؟ ما لقيت حدا يردني» هكذا، أصبح «المصريون القدامى» فراعنة ظلاميين.

(تصميم: هاشم رسلان)

دائماً ما نجد توهيناً يصلُ إلى حدّ الإسراف بسُلطان اللّغة والمُصطلح واللّقب. قلّة هي الشعوب أو الجماعات التي أطلقت على نفسها الألقاب. غالباً ما تأتي التسمية من الخارج وأحياناً كثيرة يكون هذا «الخارج» عدواً؛ يحمل سلاح التنميط ليُحارب به «الداخل»، إلى جانب أسلحته التقليدية. يتمركز فعل التنميط غالباً حول أوصاف تُطبع على جبين أفراد أو جماعة، حتى يصبح هذا الوصف نعتاً، يتقدم معناه على واجهة «أسمائهم»، فتصبح «صفة» هذا الشعب أو تلك الجماعة هي هويتهم التي تحددهم.
ولكن في الحقيقة، لم يُطلق «المصريون القدامى» على أنفسهم تسمية «الفراعنة»، ولا الحاكم في مصر القديمة كان فرعوناً. على الأرجح، ترجع التسمية إلى ميول عقائدية حيث نرى في التوراة، في سفرَي التكوين والخروج تحديداً، الإشارة إلى الحاكم في مصر بلقب «فرعون». ومن دون الغوص في تاريخ مصر وأصل التسمية، ولكن قد يوجد ملك مصري قديم يحمل اسم: فرعون، وأصبح ذلك لقباً لكلّ ملوك مصر. وفي هذا تنميط بالطبع، لأن ملوك مصر كثر، وقد تبدّل حكمهم وتراوح، مثل كل قصص الملوك التي نعرفها، بين ظالم وعادل ومعتدل، لكن أن ننسب التاريخ المصري إلى الفراعنة، ونصف المراحل السياسية برمتها بناءً على حكم «فرعون» أي حكماً فرعونياً، فيه من الاختزال ما يكفي، إذ إن وسم مرحلة تاريخية معينة عانى فيها شعب من الاضطهاد بصيرورة تاريخية طويلة، فما هو سوى تنميط مفرط.
وقبائل الآزتيك والإنكا والمايا وغيرهم، فقد كانوا شعباً ذا ثقافة، ودين، وتنظيمٍ اجتماعيّ متمايز ومُتكامل. يمكننا نقض الرواية الذائعة إذا ما قرأنا عنهم، عندها لفهمنا أن هذه الشعوب بعيدة كل البعد عن السذاجة. في كتابه «فتح أميركا: مسألة الآخر» يقول الفيلسوف البلغاري تزفيتان تودوروف: «لنقُل على الفور إنهُ لا يوجد، على المُستوى اللغوي أو الرمزي، أيّ دونية «طبيعيّة» عند الهنود: وقد رأينا مثلاً أنهم هم اللذين تعلّموا في زمن كولمبوس لغة الآخر». ويُضيف: «كان هناك موظّفون لكلّ شيء، بل وكان هناك مُستخدمون مسؤولون عن الكنس». وفي ما خصّ السلوك مثلاً، تقول وصيّة من ثقافتهم كان يقدّمها الآباء إلى الأبناء: «لا تكن قدوة سيّئة، لا تتكلّم بدون رويّة ولا تقاطع خطاب الغير. إذا ما تكلّم أحد بشكل رديء أو بشكل يعوزه الوضوح، كُن حريصاً على ألّا تفعل شيئاً كهذا. وإذا كان ممّا لا يعنيك أن تتكلم، فالتزم الصمت». وغيرها من الأوصاف وأنماط العيش التي ذكرها الكاتب، كالتبادل التجاري والاحتفالات والتقويم الديني والطقوسي، تهدّم كلّ أشكال الاختزال الثقافي والتنميط المُبتذل الذي صنعه كولمبوس وأحفاده بحق هؤلاء.
ككائنات تستخدم اللّغة للتعبير عن أفكارها، فإننا نعرّف الفكرة بأنها كالفيروس، تنتشر وتجتاح الفضاءات، هي تنطلق وتصل، بغضّ النظر عن صحّتها من عدمها. فأنت كما قد تُربّت على كتف الأحزان لتُسكّنها بكلمة، فباستطاعتك أيضاً أن تقتل. يلعب الإعلام مستخدماً الدعاية وما هي سوى صورة منمّطة مكثفة، دوراً أساسياً في التلاعب بالألفاظ والمُصطلحات ورمي الألقاب والصفات على عواهنها من أجل التأثير في الرأي العام عبر تشويه صورة الآخر. قد نحتاج إلى مُجلّدات إذا ما أردنا الغوص في رحلة شاملة حول العالم لفهم الأساليب المُستخدمة في التنميط إن كان على المستوى السياسي أو على المستوى الثقافي والهوياتي ذلك بغية عزل أفراد أو جماعة. من قصة «المصريين القدامى» وصولاً إلى «سكان أميركا الأصليين» مروراً بإرفاق الشيوعيّة بالإلحاد، ووسم أصحاب البشرة السمراء بأنّهم أدنى قيمة من صاحب البشرة البيضاء.
لنا في لبنان نصيب وافر من استفحال التنميط. لقد استخدمت كل الوسائل، ولعقود، لتكريس هذه العتمة وإطالة النفق المظلم. من وسائل إعلام إلى مقالات ورسومات، من أحاديث شعبية إلى خطابات سلطويّة كان مركزها أصحاب أعلى مراكز القرار. أودى الخطاب «التنميطي» إلى الحرب وتفشى خلالها كسربٍ من حشرات الجراد في حقل كبير. ناهيك عن الأسلحة التي يستحيل حجب صوتها، تلك التي تُثير الرّعب في النفوس كصرير الطائرات وأزيز الرصاص، إلا أن الحروب الثقافية، والتي شنّت معها بالتوازي كانت أكثر صخباً وضجيجاً، تؤذي الأذن وتنخر الرأس، حاكت سرديّتها على الشكل التالي: هناك أشخاص أعلى شأناً، وهم أصحاب حق مُختارون وما مهمتهم سوى تطهير العالم من أشخاص أدنى منهم، أشخاص باطلون وبقاؤهم يُهدّد سير الأجرام والكواكب في مساراتها. وهذا كذب وتلفيق وإجرام.
بقي التنميط جارياً بعد الحرب، وهو في يومنا هذا، حربنا القائمة، هو السواد الفظيع الذي يغلّف أيامنا. الحرب التي دامت 15 عاماً كقتال مُسلّح باقية بثقافتها وأدبيّاتها ولا تعرف الهدنة. من منا لم يُشاهد تلك البرامج التي تذاع أسبوعياً على المحطّات، وتدخل البيوت رُغماً عن أصحابها؟ في مرحلة من مراحل حياتنا ضحكنا، قبل أن نفهم أن المزحة ليست فكاهة إذا عرفنا أن هناك إبرة مختبئة تحتها. تتحوّل الكوميديا إلى تراجيديا عندما تعلم معنى ذلك السكيتش عن شاب من منطقة عين الرمّانة لا يعرف سوى البلطجة على المفرق، وآخر من الضاحية الجنوبية يقول «موتسيك» بدل اللفظ السليم لها وزجّ كل من يشبهه ويشبه لفظه في خانة الجهل، أما ذلك الذي يسكُن في بعلبك فقد حوله «التنميط الفكاهي» إلى مرء سرعان ما يباغت بسؤالٍ بعد أن يتضح مسقط رأسه بجملة ثابتة: «جبلنا حشيشة». ناهيك عن سهام التنميط التي نرميها اعتباطياً على شعوب أخرى، من سوريين وفلسطينيين، و على رجال ونساء من بنغلادش وسريلانكا عبروا بلاداً لكيّ يكدّوا في بُلدان بعيدة عن بلادهم، يتحملّون وزر الأوصاف الدنيئة والمعاملة الدونية، تشبه ما سبق وفعل الإسبان مع «الهنود الحمر» فقط من أجل إعالة عائلاتهم وتوفير الطعام لهم.
هي صفات محشوّة في أدمغتنا عن «الآخر»، يلعب الإعلام والروايات المهيمنة مثل تلك التي تجعل من كولمبوس بطلاً، على تعزيزها وتأجيجها ومنح أولوية لشعبٍ على آخر. النتيجة واحدة تخرج من نفقٍ مظلمٍ لتحط في نفقٍ آخر أكثر ظلاماً: انتشار القتل الثقافي في المجتمع الواحد كأسلوب من أساليب الحرب الذي يفضل سكيتشات التلفاز على فوهات المدافع.
سأتركك الآن لأطلب كوباً من القهوة من سلسلة محلّات «دانكن دوناتس». لقد تدرّبت على حفظ اسم المشروب الذي أحببته في المرّة الأخيرة باللغة الإنكليزية وبنطقه السليم (راجع مقالة مهدي عساف، في «دانكن دوناتس»: حيت يحتسيك النادل). إذن وكما ترى، يُلاحقك التنميط إلى هُناك أيضاً، فلا يقتصر الأمر على طلب كوب القهوة مثل ما تفعل من «إكسبرس» على الرصيف، بل يتبع ذلك معجم باذخ من كلمات معيّنة باللغة الإنكليزية حتّى تتمكّن الآلة من العمل، أو حتّى يسمح لها كولمبوس بذلك، ولتكون أنت على «مستوى» المكان.