لا يكاد أوّل الشهر يطلّ برأسه حتى يتأهّب الدون «فيتو كورليوني»، صاحب موّلد اشتراك الكهرباء، متسمراً خلف مكتبه القابع في قلب الحيّ. يجلس على كرسيّه مثل أي صاحب مقامة، لا ينقصهُ سوى قطّة ليُداعبها في حجره، يستقبل بضحكته الصفراء، وتعابير وجهه المهيبة أرتالاً من الأشخاص انتُخبوا كممثلين بالنيابة عن عائلاتهم ليعرفوا منه سعر فاتورة الاشتراك الجديدة.بسلوكه «المافيوزي» يعدّ رُزماً عديدة تحوي عشرات الأوراق النقدية من فئة المئة ألف ليرة حصل عليها مقابل بضع ساعات من التغذية الكهربائية التي لا تكفي لتسخين المياه شتاءً. بشيء من التعالي يُدافع عن خفضه لساعات التغذية الكهربائية بالإضافة إلى رفع سعر الاشتراك، ويمننُك بهذا القدر من السعر وبهذا الشكل من الخدمة. يحضرك مشهد «كليمنزا» وهو يُقبّل يد «مايكل كورليوني»، كتكتيك «مافيوي» للابتزاز وعلامة الخضوع حيث يذعن الضحايا للدون الجديد من أجل الحفاظ على حياتهم.

(
رسم: فرانسوا الدويهي)

للدون معجم كلمات خاص به. يتّسم نمط معجمه بالتهديد والوعيد. كلمات مثل: العتمة، الانقطاع، والغياب، يردّدها بلفظِ ثقيل يكاد يمزّق حنجرته، ويصل الحد أن صورة شخصيته في الذهن ترسمها معاني هذه الكلمات. في يده أفضل سلاح من المُمكن أن يمتلكهُ طاغية: حاجة الناس إليه.
يُدرك «صاحب المولّد» نقطة قوّته ويعمل عليها، هكذا يُبقي، كالوحش المُفترس، على ضحيّته في كهفه الموصد. يوهم العائلة أن ست ساعات أو سبعاً في اليوم، بتكلفة 150 دولاراً للخمسة «أمبيرات» أفضل من العتمة الشاملة.
في بلدٍ تكاد تستجدي فيه أنفاسك، أنت محكوم بمزاج صاحب المولّد وصاحب الإنترنت وصاحب نقلة المياه إلخ. أصحاب تلك المصالح، التي نمت كالطحالب في السنوات الأخيرة على أطراف أحيائنا السكنية يدركون مدى تصدّع الدولة ويستمدّون قوتهم من تقهقر القطاع العام. رصد سطحي وسريع لأدبيات الناس اليومية، ما يتفوّهون به من كلمات أو ردّات فعلٍِ تظهر لك جلياً مدى تحكّم دون «فيتو كورليوني» بزمام الأمور، حيث يشعر مشتركوه وكأنّهم يعيشون بفضله، أو كأنه صاحب الفضل الأكبر لهم بالعيش. في بلدٍ أصبح الحصول فيه على وظيفة يشبه ربح الجائزة الكُبرى لليانصيب، بات احتمال العيش فيه ضئيلاً جدّاً. فعندما تغيب الدولة، من الطبيعي أن يظهر من يحلّ محلها، هكذا تطلّ «المافيا» علينا بعد أن وجدت أرضاً خصبة ومُهيّئة لزراعة بذور الاستغلال.
لا بد وأن تكون قد مررت بتلك الظاهرة التي ما تنفك أن تتوسّع. طلاب جامعات وموظفون، يهرعون من قهوة إلى أُخرى، من أجل الكهرباء والإنترنت. طلاب وجدوا الحل الوحيد لمتابعة محاضراتهم وصفوفهم في الجامعة هو الهروب من منازلهم المُعتمة إلى مقاهٍ توفّر النور والإنترنت.
كتاجر مُخدّرات مُتمرّس، يتلاعب دون «فيتو كورليوني» بالسوق كماً ونوعاً، مثل وحش رابض في شارعنا. سنذكره أينما نحطّ رحالنا في المُستقبل. سيبقى صدى للعناتنا التي وجّهناها له، هو السارح في فضاء الانهيار المستجد، وبطلٌ من أبطاله. أولئك الذين رموا الحجارة من أسفل الوادي أثناء صعودنا إلى التل، مسكوا أرجلنا عندما حاولنا صعود السلالم، قطعوا الحبل ونحن في قاع البئر وشدونا إلى الأسفل أثناء غرقنا.