أعلن مجلس الخدمة المدنية، أخيراً، تنظيم مباراة لتعيين مفتشين معاونين في ملاك المفتشية العامة التربوية في التفتيش المركزي، وحاجة المفتشية لـ 52 مفتشاً في اختصاصات مختلفة منها التربية الفنية.
لطالما كنت أرغب شخصياً في دخول ملاك الوزارة منذ تخرجي من معهد الفنون ـــ قسم المسرح في الجامعة اللبنانية، ولم أجد فرصة واحدة ممكنة طوال مسيرتي، فعملت في القطاع الخاص والتدريب والتعليم والتربية خارج إطار المؤسسات الرسمية، لكون شهادتي في هذا الاختصاص تصنف جامعية وليست إجازة تعليمية، علماً بأنّ سنوات الدراسة آنذاك كانت 4 سنوات وليست 3 سنوات. حالي في ذلك مثل حال مئات المتخرجين والمتخرجات المؤهلين الذين عُدَّت شهادتهم جامعية. بالمناسبة، وصل، أخيراً، مشروع مساواة حاملي الإجازة الجامعية بحاملي الإجازة التعليمية إلى الهيئة العامة للمجلس النيابي، ولم يُقَرَّ لربطه بسلسلة الرتب والرواتب.
بعد إقرار خطة النهوض التربوي منتصف التسعينيات التي أضافت رسمياً التربية الفنية إلى المنهاج كمادة، لم نوفق في الانضمام إلى كلية التربية في الجامعة اللبنانية ـ قسم التربية الفنية كتعويض عن الإجازة التعليمية، إذ ما لبثت أن فتحت الكلية قسم المسرح حتى أغلقته، وتبع ذلك تجميد تدريس «المواد الإجرائية» (رسم، موسيقى، مسرح، لغة ثانية، كومبيوتر، تكنولوجيا، الخ)، وأُستعيض عن إلزام المدارس الرسمية بتطبيق المنهاج كاملاً ومن ضمنه المواد الإجرائية بترك الخيار للمديرين، البعض عمل بكد لتأمين حصص تعاقدية للتربية الفنية وآخرون تركوها ساعات فراغ لعدم توافر المدرسين/ات والعدد الأكبر ملأها بساعات تعليم ديني من خارج المنهاج، وغير ذلك من الخيارات. سيكون صعباً تحديد الجهة التي طلبت المفتشين التربويين في ظل الفوضى القائمة في إداراتنا، فالتفتيش المركزي هو صاحب الحاجة كما هو واضح لمصلحة المفتشية العامة التربوية، هل الوزارة هي المحرّك؟ ألا تعرف الوزارة واقع المواد الإجرائية؟ هل التفتيش على يقين أن التربية الفنية أو المواد الإجرائية صارت مواد غير ملزمة في المنهاج بشكل مخالف للقانون والمراسيم التي تشرعها كمادة منهجية؟
أما في شروط التعيين، فلفتت نظري نقطتان: الأولى أن يكون المرشح قد أمضى 5 سنوات خدمة في الإدارة العامة، والثانية تحديد سنه بأكثر من 28 سنة.
قد تبدو الشروط هذه ضرورية، ولكن لنكن واقعيين في قراءتنا، فتوقيف التوظيف في الإدارات العامة يعود إلى عام 1992 ما عدا الاستثناءات المحدودة، بمن فيهم الفائزون في مباريات مجلس الخدمة المدنية المنتظرون منذ سنوات، وكذلك متخرجو/ات كلية التربية. فعملياً المرشح الذي دخل الملاك ويريد الانتقال إلى التفتيش لن يكون عمره أقل من 45 سنة، وهو لديه 25 سنة خدمة في الإدارة العامة. هنا أنظر إلى نفسي وأعيد السؤال: هل مضت 25 سنة على تخرجي من الجامعة (1991)، وأنا ما زلت أحلم بالخدمة العامة في القطاع التعليمي؟
خمسة وعشرون عاماً مضت وأنا اتحيّن الفرص للوصول لتحقيق أحلامي، فحاولت ان أتابع دراستي للوصول إلى دكتوراه انطلاقاً من دبلوم الدراسات المتخصصة DES التي تعادل نظرياً شهادة الماستر، لكنّ جامعتنا الوطنية والجامعات الخاصة لم تعادلها على هذا النحو، لكنها تعادل الإجازة التعليمية، وإن لم تصدر بمرسوم.
اليوم تأتي فرصة توظيف في المفتشية العامة التربوية تليق بخبرات بُنيَت وعُمِل عليها على مدى السنوات، لكنها محصورة بالموظفين فقط!
هل يجوز أن يكون النظام والآليات الإدارية عاجزة عن توظيف كفاءات في كنف الدولة، تحلم بالمشاركة في صناعة جمال هذا الوطن ليبثّ فيه روحاً، فيتحولوا إلى كتل من العاطلين من العمل والمستجدين الذين لا يكلّون عن محاولة إيجاد مدير يقبل طلبهم لتدريس بضع ساعات تربية فنية في المدرسة التي يديرها؟
كم كنت أكره قصة النملة والزيز، يومها انتفضت على الأستاذ، قائلاً: أليس الفن إنتاجاً (بعد قراءتي لكتاب ضرورة الفن لأرنست فيشر)، تخيل حياتك بلا موسيقى كيف ستكون؟ كيف يمكن وزارة التربية والحكومة ألّا ترى شغف تلامذتنا في الفنون، هم حتماً ليسوا أرقاماً ولا عدد حصص نحتسب كلفتها، ولا قوانين نعطلها بمراسيم مخالفة لتطور الطبيعة البشرية، هم حتماً سيشقّون طريقهم إلى النور.
*باحث في التربية والفنون