إبراهيم الأمينجيل الاجتياح هو الاسم المتعارف عليه لجيل من الشباب اللبناني، الذي وجد نفسه في قلب المعركة إثر اجتياح 1982. قبل ذلك التاريخ، لم يكن الحوار مقطوعاً بين المنتمين إلى اليسار والمجموعات الملتزمة إسلاماً حركياً. وعند عودته إلى لبنان منتصف الستينيات، لم يهرب السيد فضل الله من استحقاق المواجهة مع اليساريين. كان يعمل على انتزاع ما أمكن من الشباب في تلك الحقبة التي اتّسمت بالانتساب الجماعي إلى الماركسية والقومية العربية. لم يكن لدى اليسار ما ينقض هوية الرجل الوطنية ودوره في التحريض على مواجهة احتلال إسرائيل لفلسطين، لكنه انضمّ منافساً في الإشارة إلى ضرورة مواجهة الحكم الظالم في لبنان. ومثّل التحدّي الأبرز لدى قادة وكوادر التنظيمات القائمة على الفكرة المطلبية أساساً نضالياً. وكان السيد يجهد لإقناع الشباب بأنّ الالتزام الديني لا يعني رفض الآخر، ولا يعني العزلة أو الامتناع عن مواجهة الظلم.
من النجف إلى النبعة، ومنها إلى بئر العبد، تحوّل السيّد إلى القطب الأبرز الجاذب لكلّ المتأثرين بالفكر الشيعي المعاصر. قدّم صورة جديدة عن رجل الدين الذي كان ذلك الزمن قد كشف الكثيرين منهم، إذ بدوا مثل رجالات البلاط، انخراطهم في الحياة السياسية محدود، والفكر التجديدي غائب عنهم، وباتوا أقرب إلى الموظفين الذين سرعان ما جاء المجلس الإسلامي الشيعي ليحولهم إلى نظراء لرجال الدين في الطوائف الأخرى. ورغم أن الإمام موسى الصدر احتل حيزاً كبيراً في الوجدان الشيعي الساعي إلى تحسين المشاركة في السلطة ومغانمها، فإنّ السيد الذي كان يقف في الظل، مسّ بسحره وجدان الشباب الذي قذفته الحاجة إلى بيروت وضواحيها.
مرّ وقت طويل قبل أن يتحول السيد إلى مركز استقطاب لجيل كامل. الفتيان الذين كانوا يركضون إلى البنادق، واجهوا للمرة الأولى تحدياً من نوع مختلف. كان لهم إخوة وأصدقاء ينسحبون بهدوء إلى أمكنة أكثر ضيقاً، مسجد الإمام الرضا في بئر العبد، ومنازل مختفية خلف إخوتها. جاء الاجتياح مناسبة لزواج غريب بين السيد فضل الله المُقرّ بالآثار الاستثنائية لثورة الإمام الخميني في إيران ونهضة تيارات شيعية في العالم العربي، من بينها لبنان، وبين فكره المتحفز للانتفاض بوجه أيّ نوع من القيود، وخصوصاً تلك التي تحول دون استخدام العلم والعقل وسيلة فضلى لكل أشكال التنوير والتحرر.
بين حارة حريك، مقر إقامة السيد، وبين طهران، مقر إقامة الوليّ الفقيه، وبين الأمكنة الأخرى الموزّعة بين المجلس الشيعي مع الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين والأخبار الآتية بالتواتر من مرجعية النجف المحاصرة، لم يكن بمقدور أحد إبعاد السيد الراحل عن قلب الحدث. كان السجال يستمر في آليات سبره للعلوم الحديثة ومواءمتها مع أفكاره العقائدية لإجابة الناس عن أسئلتهم المرتبطة بالعصر. وكلما تقدم في علمه التنويري، كان يفضح تياراً سلفياً متخلّفاً سرعان ما اختفى خلف جدران، فيما أضاعت الحسابات السياسية الموقع العلمي المتقدم للراحل شمس الدين.
جيل بأكمله محسوب على الرجل. وجيل بأكمله تدرّب على مقارعة أفكاره. جيلان يشعران اليوم بفراغ مع رحيله. والأمل في أيامنا المقبلة أن تحمل لنا من يقتفي الأثر على طريق التنوير والدفاع عن حق أي مخلوق في العيش كيفما قاده عقله، من دون إرغام أو قهر!