يبدأ الأمر منذ أن يدخل الواحد منّا ميدان الطب، فبمجرّد أن تطأ قدمه صرح كلّيّة الطبّ، حتّى يسهل عليه، كما الآخرين، ربط كُلّ المجهود والوقت الذي يبذله في الدراسة بـ«الخدمة» و«التضحية» والتعب في سبيل مهمّة إنسانيّة. وهكذا يُصبح كُلّ العناء مقترناً، ليس فقط بالشهادة الجامعيّة في نهاية المرحلة الدراسيّة، بل أيضاً بغاية سامية يتّسم بها تلقائيّاً كُلّ من يدخل هذا الميدان. وكُلّ هذا يحصل بمجرّد أن يصبح جزءاً، ولو مبتدئاً، في هذا الحقل، دون أن يُضطرّ فعليّاً إلى القيام بأيّ مهمّات «إنسانيّة» بعد.
اقتران الطب بالنبل ليس بالأمر الجديد، وهذه العلاقة تتمظهر في أكثر من موقع؛ في النظرة إلى الأطبّاء «السيّئين» أو الذين يرتكبون أخطاء طبّيَّة فادحة. غالباً ما يُنظر إليهم على أنّهم «يُشوّهون» الطّبّ، بالإضافة إلى تشويههم إنسانيّتهم، وأنّهم عارٌ على هذه «المهنة» النبيلة. قد لا تكون هذه النظرة حصريّة لهذا الحقل، لكنّها عادةً ما تكون أكثر حدّة في كُلّ ما له علاقة بميدان الطبّ، فكثيراً ما يُقال إنّ الطبيب هذا لا يُمثّل «نقاوة» هذا المجال. نادراً ما يُقال الأمر ذاته عن مجالات عمل أُخرى، فلا يُقال، مثلاً، إنّ فلان يُشوّه الحدادة أو النجارة، أو أنّ ممارسات فلان تجعله لا يستحقّ شرف أن يكون خبّازاً.

في كتابه «الطبّ الإمبريالي والمجتمعات المحلّيّة»، يشرح ديفيد أرنولد كيف استُخدم الطبّ كأداة استعماريّة مُهمّة، إن كان لناحية تبرير أو تسويق البعثات الاستعماريّة إلى قُرى المُستعمرات، أو لناحية إقرار قوانين طبّيَّة وإجراءات صحّيّة تُسهّل بسط سلطة الدولة المُستعمرة، أو حتّى لناحية نشر بعض الأمراض بشكل مُباشر بين المُجتمعات المحلّيّة بهدف إضعاف القبائل المحلّيّة من أجل السيطرة على المنطقة. اتّخذت القوى الاستعماريّة، بحسب أرنولد، من استخدام الطبّ في مُستعمراتها فرصةً لتسويق نواياها الحسنة والأبويّة لكسب تأييد أكبر من الرعايا الجدد، وفرصةً أيضاً لإرساء سيطرة إمبرياليّة أوسع ممّا يُمكن تحصيله بالغزو فقط. وقد أدرك العديد من المُبشّرين في البعثات الاستعماريّة هذا الدّور الذي يُمكن أن يلعبه الطبّ، لأنّه مرتبطٌ بـ«خدمة الشعوب»، في بسط سلطة الاستعمار بشكلٍ أوسع. وقد أشار إلى ذلك الأسقف سميث عضو إرساليّة الجامعات إلى أفريقيا الوسطى في عام 1893 عندما قال إنّ «هُناك بعض المجالات للإرساليّة يبدو أنّ الأطبّاء فقط هم الذين يستطيعون اكتساب أيّ نفوذ كبير فيها»، وأنّ كراهية المجتمعات المحليّة ومقاومتهم للاستعمار «لا يُمكن هدمهما إلّا بإظهار التعاطف لما يحدث من آلام للجسد مصحوباً بالقدرة على تخفيفها»، أي من خلال الطّبّ.

يُمثّل الطبّ في وجدان الكثيرين إلى اليوم مساحةً نبيلة تسمو فوق المصالح والعصبيّات هدفها الأساس خدمة الأنسان، ولذلك لا يزال حتّى الآن يُستخدم كمدخل إلى المُجتمعات التي قد يصعب خرقها من خلال وسائل أُخرى. على سبيل المثال، نظّمت وكالة الاستخبارات الأميركيّة (CIA) عام 2011، بالتعاون مع أطبّاء محلّيّين، حملة مزيّفة لتطعيم الرضّع ضدّ فيروس التهاب الكبد «ب» (Hepatitis B) في منطقة أبوت آباد في باكستان بهدف جمع عيّنات من الحمض النووي (DNA) وربطها بأسامة بن لادن عبر مقارنتها بعيّنات من الـDNA تمّ أخذها من أخته التي تُوفّيت في أميركا في عام 2010. وبحسب مقالة نُشرت في مجلّة Scientific» American» الأميركيّة، فقد كان لهذه الحملة المُزيّفة آثار كارثيّة فيما يخصّ ثقة المُجتمعات المحلّيّة في أفغانستان وباكستان بحملات التطعيم لاحقاً، كما أشار آنذاك البروفيسور ليزلي روبيرتس في كليّة الصحّة العامّة في جامعة كولومبيا إلى أنّ هُنالك أطفالاً سيعيشون طوال حياتهم مُصابين بشلل الأطفال بسبب عدم تلقّيهم اللقاح لأنّ الإدارة الأميركيّة كانت مُصمّمة على الوصول إلى بن لادن مهما كلّف الأمر.

وكما يُمكن للطبّ أن يكون أداةً استعماريّة، يُمكن له أيضاً أن يكون أداةً رأسماليّة، مثل الأطبّاء الذين يتواطأون مع بعض شركات الأدوية لتسويق أدوية معيّنة رغم خطورتها بهدف المال، كما كان الأمر مع أطبّاء كُثر تلقّوا أموالاً طائلة من شركة «بردو» للأدوية (مثل لين ويبستر، مُدير أحد أكبر مراكز علاج الألم في الولايات المتّحدة) والذين استمرّوا في وصف الأفيونات لمرضاهم رغم ملاحظاتهم لازدياد عدد الوفيات بين مرضاهم بسبب الجرعات الزائدة من هذه الأدوية.

الطبيب ليس ملاكاً نبيلاً سامياً بقميصٍ أبيض، هو إنسانٌ يملك خبرات وأدوات في مجالٍ مُعيّن، يستخدم هذه الأدوات بالطرق التي تنسجم مع أهدافه وأولويّاته وقيمه وسائر عناصر شخصيّته. صحيحٌ أنّ ارتباط الطبّ بالشفاء والإنقاذ يُضفي عليه هالةً إنسانيّة في عيون المرضى، لكنّ تنزيه الطبّ كحقل بحدّ ذاته وجعله يتّسم بالنبل والسمو يُسهّلان استغلاله. تصوير الطبّ كمهنة نبيلة يُتيح تصوير كُلّ الطرق الأخرى لاستخدام الطبّ الآنفة الذكر كاستثناءات شاذّة خرقت القاعدة، رغم أنّها قد تكون قواعد أُخرى بحدّ ذاتها. بل وتصوير الطبّ بهذه الطريقة لا يُتيح تقديراً حقيقيّاً للنماذج والمجموعات التي تبذل جهوداً إنسانيّة جبّارة لتُمارس الطبّ بإنسانيّة ونُبل وسموّ فعلاً، وما أكثر هذه النماذج بيننا، في الظّلّ بشكل خاص.

في الوقت عينه، لا شكّ أنّ للطّبّ مزاياه الخاصّة غير المتوفّرة في ميادين العمل الأخرى. يُتيح الطبّ فرصة الوصول إلى لحظات حسّاسة للغاية في حياة المريض، من لحظات الحياة الأولى إلى اللحظات الأخيرة، مروراً بلحظات الوداع أو الألم الشديد أو تلقّي الأخبار السيّئة أو المُطمئنة. هذا يجعل من أيّ دورٍ إنسانيّ يلعبه الطبيب أكثر أهمّيّة في هذا الحقل تحديداً، لكن عليه أن يبذل الجهد للعب هذ الدور، فهو لا يلعبه تلقائيّاً بمجرّد وجوده فيه. كُلّ هذا يستدعي ضرورة إيجاد العوامل التربويّة والمؤسّساتيّة لنشأة الطبيب، منذ كلّيّة الطبّ التي تُحفّز أولويّات معيّنة في المسار المهني، وتُقدّم نماذج مُحدّدة للريادة و«النجاح» دون أُخرى.

لقد حوّلت الرأسمالية الاستعماريّة المختصّين في الطّبّ عبر السنين إلى طبقة متعالية عن المجتمع، بعد أن كان الطبيب أو المُعالج في المجتمعات الشرقيّة وشعوب المُستعمرات هو أحد الحرفيّين والعاملين مثله كمثل النجّار والخبّاز والفلّاح، يتعلّم حرفته ومن ثمّ يمارس دوراً إنسانياً في علاج أبناء قبيلته أو مجتمعه! في الحقيقة، الطبّ ليس مهنةً نبيلة ولا مجالاً سامياً. الطبّ أداة. يُمكن لهذه الأداة أن تُستخدم بطرق عديدة ولأهداف متنوّعة ومتناقضة. يُمكن لهذه الأداة أن تكون أداةً استعماريّة تُعين الدول المستعمرة على بسط سلطتها على الشعوب المحلّيّة في المستعمرات، ويمكن أن تكون أداةً رأسماليّة تُدخل مستخدميها في عجلة الاستغلال الرأسمالي سعياً وراء مراكمة الثروات، ويمكن أيضاً أن تكون أداةً نبيلةً إنسانيّة يستغلّها الطبيب من أجل خدمة أبناء مُجتمعه أو أبناء مُجتمعات أُخرى. ولكنّ تصوير الطبّ بحدّ ذاته كمجالٍ نبيل، أو أنّ كُلّ أو أغلب من يدخله يستمدّ من النّبل هذا ويُمارسه في عمله، يُنزّه هذه الأداة عن كُلّ الطرق الأخرى السلبيّة الممكنة لاستخدامها، ويُصوّرها كاستثناءات نادرة.

المصادر:
[1] Arnold, David. Imperial Medicine and Indigenous Societies. Oxford Univ. Press, 1989.
[2] “How the CIA's Fake Vaccination Campaign Endangers Us All.” Scientific American, Scientific American, 1 May 2013,
[3] “CIA Organised Fake Vaccination Drive to Get Osama Bin Laden's Family DNA.” The Guardian, Guardian News and Media, 11 July 2011.
[4] “The Crime of the Century.” HBO, 20 Apr. 2021,