لا تزال الإجابة عن التساؤلات بشأن تكوين شخصياتنا، بين كونها نتاج بيئتنا وتربيتنا، أو أنها تجسيد لموروثاتنا الجينية، غامضة إلى حدّ بعيد، وتشكّل انقساماً علمياً. لكن بالنسبة إلى عالم النفس الأميركي، روبرت بلومين، الإجابة عن هذه الإشكالية المعقدة تقبع أساساً في الجينات، وفق ما يشرح في كتابه الجديد Blueprint: How DNA Makes Us Who We Are أي «كيف يجعلنا حمضنا النووي ما نحن عليه» (دار آلن لاين - 2018 )، المبني على دراستين عمِل عليهما بلومين لثلاثين سنةً. في دراسته، يتعامل بلومين مع الاختلافات النفسية والشخصية بين الأفراد، كما يتعامل مع الاختلافات البيولوجية والفيزيولوجية بينهم، فكما نرث تكاوين أشكالنا وقوّتنا البدنية مثلاً عن أهلنا، كذلك نرث طباعنا وخصوصياتنا النفسية والعقلية، كما يرى بلومين، في استنتاجاته الجدلية.
الجينات هي المذنبة!
الخلاف الأساسي في هذا المجال يرتبط بشأن أيٍّ من العاملَين المذكورين يؤدي الدور الغالب في تحديد الشخصية الفردية، وهو ما يجيب عنه بلومين، بثقة، بأنها الجينات. في كتابه الذي تحدّثت عنه صحيفة «ذي غارديان» البريطانية في مقال، يستند بلومين إلى دراسات جينية حديثة ليتوصل إلى استنتاجات «استفزازيّة»، غير أنها استنتاجات تقارب الطابع الفردي لتأثير الجينات، لا الطابع العرقي أو الجماعي.
وفي نقطة التقاء مع عددٍ من العلماء، يرى بلومين أن العالم النمساوي سيغموند فرويد، وجّه المجتمع إلى النظر في الاتجاه الخاطئ للبحث عن أجوبة بشأن ما يجعلنا كأفراد ما نحن عليه. وهذا يدفعه إلى القول إن «المفتاح لفهم طبائعنا وشخصياتنا لا يرتبط بتربية أهلنا لنا، بل بما ورثناه بيولوجياً منهم: تحديداً الجينات في حمضنا النووي».
ويتوصل بلومين إلى استنتاج أن نسبة 50% من شخصياتنا وقدراتنا العقلية تحدّدها تلك الموروثات الجينية، ما يبقي 50% فقط للبيئة المحيطة والتربية، التي، بالنسبة إلى بلومين، لا تخضع بمعظمها أيضاً للسمات العامة للمحيط والبيئة، بل لـ«أحداث غير متوقعة». أكثر من ذلك، إنّ العوامل البيئية تخضع أيضاً إلى حدّ كبير للعوامل الجينية، بمعنى أن تلك العوامل البيئة هي إلى حدّ كبير ترجمةٌ للسمات الجينية.
يوصّف بلومين تلك المعادلة بالقول: «نعرف الآن أن الاختلافات في الحمض النووي (بين الأفراد) هي المصدر المنهجي الأساسي للاختلافات السيكولوجية بيننا. التأثيرات الاجتماعية مهمة، لكن ما توصلنا إليه في السنوات الأخيرة أن تلك التأثيرات هي عشوائية، غير منهجية وغير مستقرة، ما يعني أننا غير قادرين على تغييرها أساساً».
في هذا السياق، يشدّد بلومين، في حوارٍ مع الصحيفة، على أن المعادلة التي طوّرها صالحة في المجتمع العالمي الحالي، حيث إن التشابه في المناهج التعليمية العالمية، يؤكد أكثر وأكثر أن الاختلاف، مثلاً، في القدرات التعلّمية بين الأفراد، له خلفيات جينية، ولا يرجع إلى البيئة المنزلية أو مستوى التعليم التي قد يكون لها تأثير محدود فقط.
يوضح بلومين أيضاً أن استنتاجاته لا تنطبق على الجماعات، بل على الأفراد، ما يبعد عنها الشبهات العنصرية، بل هي في الواقع اختلاف بين ما يقول بلومين إنه «الوسائل والفروقات» التي كما تنطبق على الاختلافات الفيزيولوجية بين فردٍ وآخر، تنطبق أيضاً على الاختلافات النفسية.
يرجع بلومين استنتاجاته أيضاً إلى التقدّم المفاجئ الذي برز في قياس النمط الظاهري (يعادل النمط الجيني مع البيئة)، والذي مكّن من ربط بعض الجينات بسلوك الأفراد، وكلّما توسعت خريطة الدراسة على عدد أكبر من الأفراد، قد يجري التوصل إلى رابط أقوى بين النمط الظاهري والسلوك.

جواب نهائي؟
يناقش عالم النفس أوليفر جايمس، أحد أبرز منتقدي بلومين، أن الاكتفاء بوضع اللوم على الجينات استنتاج مغلق، «لا أمل فيه». يفضّل جايمس معادلة تأثير العوامل البيئية في السلوك والنفسية، لأنها سردية أكثر عمقاً وغنىً، تقارب «أخطاء الأهل، الإهمال العلمي والإساءة الاجتماعية» التي يتعرض لها الفرد.
بطبيعة الحال، لا يقبل بلومين بموقف جايمس، في حواره مع «ذي غارديان». ويبرز هنا استنتاج آخر وضعه كتاب «بلوبرينت» على الساحة العلمية، يقول إن «التأثيرات البيئية نفسها تخضع للتأثيرات الجينية أيضاً». كيف؟ هذا ما يوصّفه بلومين بـ«طبيعة التنشئة»: إذا نظرنا إلى الارتباط بين ظروف الأهل الاجتماعية – الاقتصادية ونتائجها على مستوى تعليم أطفالهم ومستقبلهم المهني، ننزع إلى وصفها بأنها عوامل بيئية، لكن الجينات تقلب هذا الارتباط رأساً على عقب. يوضح بلومين أن الوضع الاجتماعي – الاقتصادي هو نتاج المستوى التعليمي للأهل، الآتي فعلياً من موروثاتهم الجينية، لينقلوا بالتالي هذا الامتياز الاجتماعي لأبنائهم، الذين انتفعوا في الواقع من جينات آبائهم.
غير أن جايمس الذي يعارض ذلك الطرح بالمطلق، يرى أن تقبّل المجتمع للحجة الوراثية يعني لوم الفقير على فقره، وهي الفكرة التي كانت قد عرضتها «ذي غارديان» في مقالٍ سابق ردّاً على مقال علمي نشره بلومين في وقتٍ سابق. «يجب ألّا نضع التمييز العنصري بمرتبة العلم»، يناقش مقال الصحيفة، أي السماح «للأشخاص بتسلّق سلّم الحياة بناءً على ما تسمح به خلاياهم».
(عن الويب)
السياسة حاضرة
لا يخلو هذا النقاش العلمي المطوّل من الطابع السياسي. تقليدياً، فضّل اليمين التوجه الذي يعيد سلوكيات الأفراد إلى موروثاتهم الجينية، لتتخذ تلك المعادلة طابعاً عنصرياً، يرى في تصرفات جماعات معينة أمراً مسلَّماً به، يرجع إلى تركيبتهم الوراثية. بدوره، رفض اليسار هذا الطرح، وفضّل التركيز على العامل البيئي، الذي يعني لومَ تصرّفات الحكومات وسياساتها على الحرمان الذي يتعرض له المجتمع أو شرائح منه، ما يعني التأثير بنمو الأفراد وسير حياتهم، وبالتالي سلوكياتهم ونفسياتهم.
حالياً، وفق بلومين، إن نظريته التي تعني أن لا شيء يمكن فعله لتغيير المعطى السلوكي القادم من الموروثات الجينية، سيفسره اليمين بضرورة التركيز على «تعليم الأفضل، وإهمال الأقلّ حظاً» جينياً، لكن اليسار قد يقارب المعادلة بالتركيز على تعليم الأطفال الأقلّ حظاً جينياً. مع ذلك، فهو يرفض استغلال هذه النظرية لتتماشى مع بعض الأهواء السياسية.

الاكتئاب...وليد جيناتنا أيضاً
المساواة والسياسة ليستا أساسيتين بالنسبة إلى بلومين في دراسته، بل إن التغيير الراديكالي الذي تقدّمه للطبّ النفسي هو الأهمّ بالنسبة إليه. في الوقت الحالي، تخضع الصحة العقلية والنفسية للنموذج الطبي القائم على تشخيص المرض ثمّ علاجه، لكن البحوث الجينية تقترح عدم وجود خطوط واضحة للأمراض العقلية والنفسية، بل هي مرتبطة بسلسلة جينية معينة.
المثال الأوضح على ذلك، مرض الاكتئاب، فمن ابتلي بحمضٍ نووي محمّل بجيناتٍ مسؤولة عن الاكتئاب (أو لوحظ وجودها عند مرضى الاكتئاب)، فهو معرّض أكثر للإصابة بالمرض من الشخص المحظوظ الذي لم يرث جيناتٍ مرتبطة بالمرض. إلا أنّ تلك الجينات في أغلب الأحيان قد تثيرها بعض الأحداث غير المتوقعة التي يتعرض لها الفرد في حياته.
هذا يجعل تصنيف الأمراض العقلية، كالسكيزوفرينيا، على أنها مجموعة أبعاد وليست «اضطرابات» وهو التعبير المتعارف عليه لتوصيف المرض النفسي أو العقلي. هذا قد يغيّر الطب النفسي وعلم النفس، وفق بلومين، الذي يحبس نفسه بانتظار كيف سيتلقى المجتمع العلمي استنتاجاته الجدلية وكيف سيقاربها، وهي وإن ما زالت تحت قيد الاختبار والنقاش، لكنها لا يمكن أن تكون موضع تجاهل مطلق.