في مجتمع اليوم لا مكان للحياد، والعلامات التجارية بحكم تداخلها وتأثيرها بكل تفصيل من حياتنا اليومية أصبحت مطالبة بأن تتخذ موقفاً حيال العديد من القضايا التي تعني المواطنين. بالمختصر، فإن انتقاء علامة تجارية بات شبيهاً بإسقاط ورقة اقتراع في الانتخابات! يفرض التفكير البديهي على أي علامة تجارية أن تلتزم بما تقوم به بحرفية ودقة، وأن توفر منتجاً وخدمةً متميزين للمستهلك وتجنب التطرق إلى أي موضوع خلافي في المجتمع، كي لا تغضب فئة معيّنة من زبائنها وعملائها الذين قد يختارون مقاطعتها في حال لم تتطابق آراؤهم مع الموقف الذي تبنّته العلامة أو حاولت الإضاءة عليه. إلا أن الدراسات الحديثة تظهر بوضوح أن العكس هو صحيح، وأن المستهلك يريد من العلامة التجارية أن تكون منبراً للمواطنين، وأن تلعب دوراً فاعلاً في توعية الرأي العام بحكم إمكانياتها المالية والترويجية والتسويقية.
حديقة طبيعية على لوحة إعلانية زرعتها «ماكدونالدز»

إحدى أبرز العلامات التجارية التي لطالما خاضت غمار القضايا الشائكة في المجتمع من دون اعتبار لأكلاف الموقف الذي قد تتخذه على أعمالها، هي علامة الأزياء العالمية UNITED COLORS OF BENETTON، وهي لطالما حاولت أن تسوّق لعالم موحّد بغض النظر عن الاختلافات العرقية والإثنية والدينية والاجتماعية بين البشر. المفارقة أن العديد من الإعلانات والحملات التسوقية التي أطلقتها Benetton لم يكن لها أي ارتباط بالأزياء وبالمنتجات التي تقدمها، حيث أظهرت، في العديد من المراحل، أنها تبدّي الموقف على المنتج.
خلال الدورة الاولمبية عام 1991 على سبيل المثال، أرادت Benetton الإضاءة على مرض الإيدز أو السيدا وكيفية الوقاية منه، فأطلقت لهذه الغاية إعلاناً يصور 5 واقيات ذكرية بالشكل نفسه لشعار الألعاب الذي يرمز إلى القارات الخمس. «ماكدونالدز» من جهتها أطلقت حملة هدفت للإضاءة على الأكل الصحي من خلال زرع حديقة طبيعية نمت خلال مدة 3 أسابيع تضمنت 15 نوعاً من الخس على لوحة إعلانية.

بين الماضي والحاضر
بعد أن كانت الدفة تميل لصالح العلامات التجارية لناحية التأثير على خيارات المستهلكين وتوجهاتهم ونمط الحياة الذي يجب عليهم اتباعه، أصبح المستهلكون هم من يفرضون على العلامات التجارية الخيارات التي يجب عليها اتخاذها. هذا التحول يستند إلى حد كبير إلى تطور الإعلام، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي منحت المواطنين الأدوات اللازمة للتعبير عن آرائهم بسهولة وحرية من دون الحاجة إلى وسيط.

أطلقت Benetton حملة توعية عن مرض الإيدز خلال الألعاب الأولمبية عام 1991

بطبيعة الحال لم تفقد العلامات التجارية من قدرتها على التأثير على المستهلكين، وهي تسيّر بطريقة غير مباشرة الكثيرين وتوجههم كيفما تشاء بالاستناد إلى إمكانياتها الإعلانية والتسويقية الضخمة، والتي أتت لتعزز من سطوتها الداتا التي تزوّدهم بها وسائل التواصل الإجتماعي والتي تساعدهم على تتبّع عواطف المواطنين وخياراتهم. الفرق أن المستهلك انتقل من حالة المتلقي الخاضع كلياً إلى حالة المؤثر والقادر على ليّ ذراع أكبر علامة تجارية بطريقة بسيطة جداً. يكفي أن يكتب أحدهم نصاً على فايسبوك أو يصوّر فيديو ينقل فيه سوء تعاطي موظف أو إدارة معيّنة، أو خطأ في منتج أو خدمة ما، حتى يؤثر على سمعة العلامة التي تضطر إلى تقديم إيضاح وتبرير وحتى اعتذار.
حسناً، قد يبدو الأمر بديهياً حتى الآن ومرتبطاً بتطور خدمة العملاء في يومنا هذا. لكن مهلاً، الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو عليه. لنفترض أن علامة تجارية ما في ممارساتها أضرّت بالبيئة، تخيّلوا حجم الحملة التي بات بإمكان جماعات الضغط والمنظمات التي تعنى بالشأن البيئي أن تشنّها على العلامة التجارية، والصورة السلبية التي ستنقلها عنها للمجتمع والدعوة إلى مقاطعتها، وهو ما ينتج عنه في أغلب الأحيان تغيّراً في سلوك العلامة وقيامها بمبادرات فورية لدعم البيئة...

أقوى من الحكومات
تبيّن أحدث الدراسات في هذا المجال، وأبرزها الصادر عن واحدة من أهم شركات العلاقات العامة في العالم Edelman، أن المشترين الذين توجههم قناعات معيّنة ( Belief-Driven Buyers) يشكلون حالياً الشريحة الأكبر من المستهلكين في مختلف الأسواق، الفئات العمرية ومعدلات الدخل. وبحسب الشركة، فإن 7 من 10 أشخاص من الفئة العمرية 18- 34 توجههم قناعاتهم وخياراتهم عند قيامهم بعمليات شراء. كذلك فقد شهدت الفئة العمرية 35 – 54 نمواً لافتاً في نسب الذين يشترون استناداً إلى توجهات فكرية أو ثقافية معيّنة، مع تسجيلها ارتفاعاً بنسبة 14 نقطة، حتى باتت شبه متقاربة مع النسب التي سجلتها الفئة الأصغر سناً. أما الذين تخطّوا عمر 55 فقد سجلوا نمواً بـ18 نقطة.
في الختام، يمكن القول إن هذا التطور في سلوك المستهلكين يعود إلى النظرة التي يحملها هؤلاء للعلامات التجارية على أنها محرك دفع قوي في المجتمع، والأقدر على التأثير وفرض التغيير في العديد من القضايا مقارنة بالحكومات. نعم هذه هي المعادلة في مجتمعات اليوم، والآتي قد يكون أعظم.