هل يمكن تحييد حقيبة البيئة عن المعايير التقليدية للتأليف الحكومي؟ مبرر السؤال، الآن، ما وصلت اليه قضايا البيئة بعد طول إهمال واستخفاف. وبعدما وصلت الخسائر إلى حدّ لم يعد بالإمكان تعويضها. بالطبع يستحق موضوع مكافحة الفساد اهتماماً كبيراً. إلا أن الموضوع البيئي يفترض أن يحظى بالاستنفار والاهتمام الأكبر. فتهديد مقومات الحياة أخطر من تهديد حياة بعض الانواع والاعداد منها. كما أن هدر الموارد او القضاء عليها أخطر من هدر المال العام. وإذا صح أن الخسائر المادية يمكن تعويضها، يصح أكثر أن الخسائر في الأنواع الحية (بينها نوعنا الإنساني)، لا يمكن تعويضها ابدا. واذ يعتقد البعض أن مشاكل البيئة الظاهرة لا يمكن حلها إلا بصرف الكثير من المال، مما يبرر الاستدانة مجددا، فالاصح الاعتقاد بأن رفع الضرر أولى من جلب المنفعة. وبالتالي يمكن ترجمة هذا المبدأ بأن حماية مصادر المياه وحسن توزيع المتوفر منها أهم من إنشاء السدود السطحية، ودعم النقل العام أهم من رفع الرسوم على السيارات الخاصة، والصرف على تطوير البنية التحتية وحماية مقومات الحياة والصحة من سلامة الماء والهواء والغذاء أهم من إنشاء المستشفيات وتأمين البطاقة الاستشفائية... وكلها متطلبات تحتاج الى تغيير السياسات أكثر مما تحتاج الى زيادة الموازنات والديون.
لم يعد الموضوع البيئي في لبنان ترفاً او تفصيلاً. بات اهماله يتسبب بكوارث اكبر من أن يتحمل مسؤوليتها مسؤول (غير مسؤول). نسب تلوث الهواء باتت تقتل أكثر من الاوبئة التي عرفها لبنان في تاريخه. أكثر من 80% من المياه العذبة الجوفية والسطحية باتت ملوثة، لا سيما من ارتفاع 800 متر وما دون. مياه البحر باتت غير صالحة للسباحة ولا لحياة الكائنات البحرية والثروة السمكية. تراجعت المساحات الخضراء الى نسب متدنية جدا وخانقة. التشوهات التي تسبّبت بها المقالع والكسارات والمرامل زادت (وكذلك خسائر خزينة الدولة) جراء عدم تنظيم هذا القطاع وقوننته. سلامة التربة والغذاء باتت مهددة بشكل خطير، مما رفع الفاتورة الصحية بشكل غير مسبوق، مع تسجيل زيادة كبيرة في نسب الاصابة بالأمراض السرطانية تتجاوز كل ارقام دول المنطقة... الخ.
رغم ذلك كله، لا نزال نستخف في كيفية اختيار وزير لحقيبة البيئة التي يفترض أن تعتبر أهم الحقائب السيادية والحياتية.
كتبنا، في أكثر من مناسبة مشابهة، أن ازمة البيئة في لبنان تبدأ مع طريقة اختيار وزراء البيئة ومع رؤية الكتل السياسية وتصورها لأهمية هذا الموضوع او استخفافها به. اهمية وزارة البيئة انها مؤتمنة على مقومات الحياة أكثر من اي وزارة سيادية او خدماتية او أمنية... لذلك لم يعد مقبولا أن تُعطى هذه الحقيبة جائزة ترضية لرئيس او لفريق او لكتلة صغيرة أو كبيرة. كما لم يعد مقبولا أن يتم التوزير بناء على إخلاص الوزير لمن يعيّنه، أو مكافأة على هذا الإخلاص. البيئة ليست مكافأة ولا جائزة ترضية، ولا هي حقيبة من ليس له (او من لم تبق له) حقيبة... انها مسؤولية كبيرة، على من يتحملها أن لا يكون محسوبا إلا على البيئة، وأن يكون مؤتمناً على حماية مقوّمات الحياة الأساسية وديمومتها وسلامتها من ماء وتربة وهواء وطاقة ومساحات خضراء وتنوع بيولوجي وانظمة ايكولوجية... إضافة الى حفظ مصالح الناس وحقوقهم، مع حفظ حقوق الأجيال القادمة أيضا.
التحدي اكبر الآن، مع تشكيل الحكومة الثانية للعهد، بعد النتيجة السلبية جداً لأداء الوزير المعني في الحكومة المنتهية ولايتها. ولا نفع ان يعترف التيار الوطني الحر بهذا الفشل في السر والعلن، مبررا بأن الاختيار كان في الاساس لمدة محدودة جدا، حتى اجراء الانتخابات النيابية، وقد طالت الفترة من دون قصد. وليس كافيا التبرير بأنه كانت لدى قيادة التيار نية حقيقية بتغيير بعض الوزراء، بينهم وزير البيئة. فالمواطن اللبناني ليس مضطراً لتحمّل تبعات فشل، ظهر منذ اللحظة الاولى لتسلم الحقيبة، في طريقة اختيار المستشارين والتعامل مع المدير العام وموظفي الوزارة، وفي طرق مراجعة الملفات، لا سيما الشائكة والحارقة منها كالنفايات! بعد هذا الفشل الذريع هل سنشهد، مجدداً، استسهالاً في تعيين من يتولى حمل هذه الملفات الثقيلة، وبناء على اية معايير جديدة سيتم الاختيار؟
واذا سلّمنا جدلا بأن البيئة «حقيبة وزارية»، مع اننا لا نميل الى هذا التوصيف، خصوصا اذا ما تم اعتبارها «حقيبة يد»، اذ لا يفترض ان تكون بيد احد غير البيئة نفسها... على من يحملها ان يقسم بذلك، كما يقسم رئيس الجمهورية امام الدستور. كما على من يحملها ان يكون محافظا، يعمل على حفظ الموارد والتدقيق في اثر المشاريع، وينكّد عيش بقية الوزارات والمستثمرين، في اقل تقدير ومهام. وللحديث صلة.