بلغ الدين الحكومي في نهاية عام 2017 نحو 79.5 مليار دولار. وتقدّر الحكومة عجز الموازنة في العام الجاري بنحو 4.8 مليار دولار، ما سيرفع هذا الدين إلى أكثر من 84.3 مليار دولار في نهاية هذا العام.لا تدخل في هذا الحساب قيمة دين مصرف لبنان والمؤسسات العامة الأخرى، كما لا يدخل فيه أي قروض خارجية أو محلية إضافية، كالقروض «الموعودة» من باريس 4 (11 مليار دولار). لذلك يستند هذا الحساب إلى كلفة خدمة الدين الحكومي كما هي مقدرة في قانون الموازنة، والتي تبلغ 5.5 مليار دولار، ما يعني أن متوسط الكلفة (الفائدة) على الدين القائم يبلغ 6.7% على الأقل (مع الأخذ بالاعتبار إعادة هيكلة 6 مليارات دولار من الدين بالاتفاق بين وزارة المال ومصرف لبنان)، وبالتالي كل نقطة منه (1%) تساوي أكثر من 820 مليون دولار من الانفاق العام الجاري.
وفي عام 2017 أيضاً، بلغت إيرادات الموازنة العامّة (الضريبية وغير الضريبية) نحو 11.6 مليار دولار، وتتوقع الحكومة أن ترتفع هذه الإيرادات إلى نحو 12.4 مليار دولار في هذا العام، أي إن خدمة الدين الحكومي ستستنزف 45% من مجمل الإيرادات. علماً أن الإيرادات الضريبية وحدها تقدّر بنحو 9.4 مليار دولار، أي إن خدمة الدين الحكومي تستأثر بأكثر من 60% من مجمل ما سيسدّده المقيمون من ضرائب ورسوم (دون تعرفات الاتصالات والمعاملات الإدارية). ولن تشكّل الإيرادات الضريبية من الدخل والاستهلاك معاً سوى 17% من مجمل الناتج المحلي، وهذه النسبة تعدّ من النسب الأدنى في فئة الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل التي يُصنف لبنان في عدادها.
وبالاستناد إلى تقديرات الموازنة أيضاً، لن تتجاوز إيرادات كل الضرائب المباشرة على الدخل والأرباح والأجور ورؤوس الأموال 3.3 مليار دولار، أي أقل من 6% من مجمل الناتج المحلي. علماً أن الضريبة على الفوائد وحدها لم تحقق في العام الماضي إلا 600 مليون دولار، أي 0.3% فقط من مجمل الودائع المتراكمة لدى المصارف، وأقل من كلفة ثلاثة أرباع نقطة واحدة (0.75%) من متوسط كلفة خدمة الدين الحكومي.
هناك مؤشران يفترض التركيز عليهما في أي بحث يتناول الأزمة المالية في لبنان. الأول، أن كلفة الفائدة على الدين العام قابلة للتخفيض على الرغم من المنحى التصاعدي لأسعار الفائدة في الأسواق العالمية. والثاني، أن العبء الضريبي على الدخل (ولا سيما الأرباح الناتجة من الفوائد والمضاربات) لا يزال متدنياً جداً بالمقارنة مع البلدان المماثلة. أي إن الحكومة في حال قرّرت تبني خيار «التصحيح» ستكون قادرة على تعبئة التمويل المطلوب من مصادر غير الاستدانة وغير استهلاك الأسر.
تقول الحكومة إنها لجأت الى باريس 4 للحصول على تمويل بقيمة 1.6 مليار دولار كمتوسط سنوي، من الآن حتى 2025. وتزعم أنها غير قادرة على تعبئة مثل هذا المبلغ إلا عبر زيادة مديونيتها، وإلا ستبقى عاجزة عن تنفيذ المشاريع الضرورية في البنية التحتية والمرافق العامة. لذلك عقدت الحكومة العزم على طلب قروض خارجية في مقابل ضمانات غير مسبوقة لحماية الدائنين ومنحهم الأولوية المطلقة في الإنفاق العام، وأعلنت عن تعهدات بإلغاء دعم الكهرباء والاستمرار في تجميد التوظيف وتخفيض التقديمات الى الموظفين والمتقاعدين في القطاع العام وزيادة الضريبة على القيمة المضافة والمحروقات، وقدّمت التزامات بتوفير الحوافز الكافية لجذرب رأس المال الأجنبي وعدم تنفيذ أي مشروع يمكن أن يدرّ الأرباح إلا بالشراكة مع القطاع الخاص على حساب الإيرادات العامة وميزانيات الأسر.
هل يستحق الحصول على 1.6 مليار دولار سنوياً كل هذه التنازلات؟
بحسب الوقائع المذكورة أعلاه، لا يساوي المبلغ المطلوب أكثر من كلفة نقطتين فقط من متوسط الفائدة المترتبة على دين الحكومة القائم حالياً. وبالتالي يمكن تخيّل خفض متوسط كلفة الفائدة من نحو 7% الى 5% (مثلاً)، وهذا يكفي (نظرياً) لتمويل كل المشاريع المُدرجة وفقاً لبرنامج الحكومة. لا يعني ذلك أن الأمر سهل أو أنه مطروح، ولكنه يدلّ على أنه خيار متاح تلجأ إليه الدول أحياناً، وبحسب التجارب، يمكن أن يتم ذلك بالاتفاق مع الدائنين أو بقرارات جبرية من الحكومة ومجلس النواب، علماً أن بعض هذه التجارب ذهب أبعد بكثير من مجرد تخفيض بسيط على كلفة الفائدة الى تخفيض أصل الدين القائم نفسه (أو ما يسمى بـ«قص الشعر»)، وهذا الخيار أيضاً غير مطروح البتّة عندنا، بل بالعكس، فالحكومة سارعت في باريس 4 الى تذكير الدائنين أنها على الرغم من أنها «تشاطرهم القلق من ارتفاع مستوى الدين العام»، إلا أن سجلّها المتعلق بالوفاء بالتزامات ديونها «لا تشوبه شائبة»، لتعلن أنها لن تلجأ إلى أي خيار من أي نوع يمكن أن «يلطخ» سمعتها كحكومة تمثل مصالح الدائنين أفضل تمثيل.
على سبيل المثال أيضاً، لا يساوي التمويل الإضافي المطلوب إلا 13% من قيمة الفوائد التي قبضتها المصارف في العام الماضي، والتي بلغت 12 مليار دولار تقريباً. وبالتالي يمكن تخيّل تعديل في السياسة الضريبية، يتضمّن فرض ضريبة عادلة وكفوءة على مجمل الفوائد الموزّعة عبر الجهاز المصرفي بمعدل يسمح بتعبئة التمويل الكافي، أو يمكن تخيّل ما هو أبسط من ذلك بكثير، كمساواة معدّل الضريبة الحالية على الفوائد (7%) بمعدّل الضريبة على أرباح الشركات (17%)، وهذا وحده يوفّر أكثر من مليار دولار من الإيرادات الإضافية في هذا العام. أو يمكن تخيّل ما هو أكثر جذرية، كاستبدال الضرائب النوعية المتعدّدة على كل مصدر من مصادر الدخل وإلغاء كل الإعفاءات وفرض ضريبة موحّدة على مجمل دخل الأسرة المحقّق في لبنان والخارج، تطال كل مصادر الدخل من أي نوع، وتكون معدلاتها تصاعدية تصل إلى أكثر من 35% على الشطور العليا، كما كان عليه الأمر في لبنان قبل التسعينيات.
نعم كل ذلك ممكن، وهذه مجرد أمثلة على الخيارات المتاحة، المقصود منها أن الاستدانة ليست خياراً وحيداً، كما تزعم الحكومة، وليس هناك أي مبرّر لمواصلة هذا الاستسلام، وخصوصاً في مناسبة كالانتخابات النيابية.