تخال صوته الرخيم خارجاً من جوف الأرض. بأسلوب لا يخلو من الجرأة، يقارب الشعر العربي. يحلم بأن يكون «وسيطاً بين أزمنة مختلفة للتخفيف من حدة القطيعة المعرفية مع التاريخ والتراث». ينقّب في الحداثة، والصوفية، والحقبة السومرية، والديانتين المسيحية والإسلامية، كأنما ليخيط حضارات مختلفة.
يضيء على الإنساني والكوني بأدوات تعبير معاصرة. يتنقل بخفة بين الموسيقى العربية المعاصرة والإسبانية (الفلامنكو تحديداً) وأنماط أخرى ذات مكونات شرقية. لم يخشَ السير في طرق وعرة، وعمد إلى كسر القوالب الغنائية العربية الكلاسيكية، فأدخل الأصوات الإلكترونية إلى بعض أسطواناته («توابل» ـــ 1990). إنه أول موسيقي عربي يزاوج بين «الغناء الغريغوري» الكنسي والموسيقى المعاصرة الغربية والشرقية (أسطوانة «البندقية»، غناء كريستيان لوغران ـــ 2000). الفنان المتمرّد الذي بدأ مسيرته بالأغنية السياسية، أصدر منذ عامين مغناة «إنجيل يوحنا»، من فئة الـ«أوراتوريو». هكذا هو عابد عازرية، مجتهد يحاول أن يفتح آفاقاً جديدة للموسيقى الشرقية، ومغامر لا يهاب التجريب.
تتعمّد بعض الصحف الأوروبية والأميركية إدراج أسطواناته في خانة «موسيقى الشعوب» أو «الموسيقى الشرق أوسطية». لكنّ أعمال عازرية تنتمي في معظمها إلى الموسيقى العربية المعاصرة. اسم المغني والمؤلف الموسيقي السوري منتشر ومعروف في أوروبا والعالم أكثر من العالم العربي، ربما لأنه يقيم في فرنسا منذ أكثر من أربعين عاماً، أو لأنّ الساحة العربية ضاقت بالمجددين في مجال التعبير الغنائي. حفلته «أغاني الحب» التي يقدّمها في «دار الأوبرا» (دمشق) مساء الثلاثاء 1 آذار (مارس) المقبل، لا تحمل جديداً، لكنّها تتميز بالإتقان، وتحمل طابعاً صوفياً وروحانياً يرقى إلى مستوى تراجيدي عالٍ، إن على الصعيد الغنائي، أو على مستوى النصوص المنغّمة. يستعيد صاحب «لازورد» مجموعة من أغنياته، بمشاركة فرقة سورية تضمّ الفيولا، والتشيلو، والكونترباص، والقانون، والعود، والناي، والطبلة، والمزهر، والرق. إضافةً إلى قصائد من الشعر الأندلسي، والشعر العربي الكلاسيكي والحديث، سيغني عازرية مقتطفات من «المتصوفة»، و«ملحمة جلجامش»، و«عمر الخيّام».
حين نعيد سماع أسطواناته نكتشف أنه فنان طليعي خارج التصنيف. لا يتعمّد عابد عازرية الخروج عن المألوف، لكن غالباً ما يخرق القواعد الراسخة. معظم أسطواناته تحمل خصائص نغمية وإيقاعية صوفية أو طقسية آسيوية. رغم أنّ ألحانه تلتحف بهوية شرقية، إلا أنّها ليست سهلة على الأذن العاديّة، وتتطلب وعياً سمعياً خاصاً. موجة الفن التجاري التي جرفت الأغنية العربية منذ مطلع التسعينيات، أسهمت في تعميق الهوة بين الجمهور العربي وعازرية الذي لم يبذل بدوره مجهوداً كبيراً للخروج من دائرة النخبوية. من المفيد إذاً أن يجسّ من جديد نبض الجمهور الدمشقي ــــ المتعطش إلى سماعه في أداء حي ــــ في التفاعل مع صوته
وألحانه.
بكثير من الطرافة، يتحدث عن موقفه من شركات الإنتاج الفني («روتانا» تحديداً)، ويطالب بمحاكمتها في لاهاي. إذ إنها ــــ في نظر عازرية ــــ أخطر من المؤامرات التي تحاك ضد المنطقة العربية. «الفضائيّات العربية مسؤولة عن تراجع الذائقة الفنية»... يشعر المستمع أحياناً بأن عازرية يتخذ من الموسيقى «ذريعة» لتوطيد علاقته بالشعر. يحدثك عن المعري والحلاج وابن الفارض وابن عربي وجلال الدين الرومي والنفري... أكثر من هاندل وشوبان.
باحترافيته العالية، ينأى صاحب «البندقية» عن لعبة الإبهار. أغنياته ونصوصه الموسيقية لا ترتكز ارتكازاً أساسياً على الهارموني... قليلاً ما يبرز عازرية ثلاثة أرباع الصوت، ويتجنب الوقوع في فخ الإسقاطات الهارمونية على الجمل المقامية. يضعف لجوؤه إلى الدمج أحياناً بنية جمله النغمية. الأنماط الممتزجة تبدو متجانسة حيناً، ومتنافرة حيناً آخر. العلامة الفارقة الأساسية لتجربته، تكمن في قدرته على التلاعب بأنماط موسيقية متنوّعة، من دون الانزلاق إلى مطب الهجانة. لا يمكن اختصار رحلة أكثر من أربعين عاماً، قضاها عابد عازرية في فرنسا، حيث جدّ في التأليف الموسيقي، وانطلق إلى العالمية. لم يعد على الجمهور السوري إذاً سوى الاستعداد لموعد نادر، مع فنّان يعيد إلى الموسيقى العربية بريقها في الخارج، ويواصل ما بدأه بكثير من التروّي والفرح.




«أغاني الحبّ» ـــ 8:00 مساء 1 آذار (مارس) المقبل ــــ «دار الأوبرا» (دمشق).
للاستعلام: 009632243475
www.opera-syria.org




صديق القصيدة

بعد حفلته الدمشقيّة، تبدو جعبة عابد عازرية محملة بمشاريع جديدة. يقول لـ«الأخبار» إنّه يستعدّ «لتقديم أمسية غنائية في «معهد العالم العربي» (باريس) في أيار (مايو)، احتفاءً بالشاعر والمفكر السوري أدونيس في ثمانينه». يعود عابد عازرية لمتابعة العمل على تلحين وتوزيع 15 مقطعاً شعرياً، لأدونيس، 10 منها تغنى للمرة الأولى. كما يعمل على إصدار أسطوانة جديدة، مع حلول الخريف المقبل، على أن تضم نصوصاً شعريّة لحافظ الشيرازي وآخرين.
«فتنت في شبابي بثورة شعراء الحداثة، وتعرفت إليهم من خلال «مجلة شعر»»، يخبرنا. نصوص أنسي الحاج، وأدونيس، وخليل حاوي، حثّته على مَوْسَقة الشعر بطريقة مغايرة. في مرحلة مشحونة بأحلام التغيير، غنّى قصائد محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، مع أنّه لم يكن يسارياً في مرحلة السبعينيات، ولا يعد نفسه اليوم يمينياً.