تأرجح الفيلم في لغته السينمائية بين أسلوبين مختلفينالمذهل والمضحك في ما ترويه دانيال عربيد عبر هذا الفيلم، هو كيف تصنع حياة بأكملها عن طريق المصادفة، فوجود البطلة وحيدة تماماً في باريس بعد هربها من بيت عمتها، يدفعها إلى الطلب عشوائياً المساعدة من فتاتين فرنسيتين غريبتين. تسكن معهما في البداية، وعبرهما تجد عملاً وتتعرف بالمصادفة إلى الرجل الذي تخوض معه علاقة عاطفية للمرة الأولى. بالمصادفة أيضاً، ومدفوعة بحالة الضياع الكلي التي تجد نفسها فيها، تكتشف شغفها بالفن حين تدخل إلى صف آخر غير صفها، وتواظب على الحضور هناك إلى أن تكتشف معلمة الفن الفرنسية الطريفة التي تؤدي دورها الممثلة الفرنسية دومينيك بلان أنّها غير مسجلة وتساعدها في تغيير مضمار دراستها. هي روعة اللا انتماء الذي تكتشفه البطلة حين تخرج من حدودها الآمنة وشخصيتها التي رسمتها تجاربها السابقة. في هذا البلد الغريب الذي لا يعرفها فيه أحد، تستطيع أن تكون من تشاء. هذا الشخص الوهمي الذي تبنيه كل هذه المصادفات، يصبح هي في النهاية، الهوية الجديدة التي اكتشفتها أو كونتها تقريباً من دون أن تدري. أيضاً، تسخر المخرجة من الصورة الوهمية التي تشعر لينا أنّها مضطرة لرسمها عن لبنان للفرنسيين، بما يناسب توقعاتهم عن أهوال الحرب التي عاشتها هناك كأن تصف مشهد الجثث أو غيره، هي التي لم تر شيئاً منها في الحقيقة. الحرب كما تقول لصديقها شيء غير مرئي، ولا تتذكر منها سوى صوت القذائف وشجار أهلها الذي كان مزعجاً أكثر في إحدى اللقطات الذكية التي يتميز بها الحوار. من السهل أن يتماهى أي مهاجر مع حياة لينا في باريس، وصراعها للتأقلم، وعالمها الصغير الذي يتكون شيئاً فشيئاً هنالك، حيث كل لقاء، كل حوار أو كل صديق تتعرف إليه، يضحي جزءاً أساسياً من حياتها ومفتاحاً لفهم هذه المدينة الجديدة. ليست هنالك خاتمة فعلية للشريط، فهو يشبه نوعاً ما الحياة في إيقاعه، فلا خلاصة شافية ولو أنّ المخرجة تنهيه بانتصار لينا الصغير والمؤقت حين تقرر المحكمة عدم ترحيلها من باريس وتجديد إقامتها. لكن هذه الخاتمة هي فرصة لاستكمال هذه الحياة والهوية التي بدأت بتكوينها والارتباط بها. على ضفة مقابلة، تواكب اللغة السينمائية السرد السينمائي في سلاسته، وتتبع رؤيا البطلة إلى باريس، وسينماها الخاصة التي ينسجها خيالها حول هذه المدينة وما تعيشه فيها، كما علاقتها الشغوفة بعشيقها الفرنسي المتزوج التي تشبه في تركيبتها ــــــ كما تصورها المخرجة ـــــ الحلم أو كليشيه العشق على الطريقة الفرنسية عن قصد لتعود البطلة إلى الواقع فيما بعد، وتواجه خيبتها العاطفية الأولى. الفيلم يتأرجح في لغته السينمائية بين أسلوبين مختلفين ترسم عبرهما المخرجة الحدود ما بين واقع البطلة وأحلامها. لكنه في المجمل، ينجح من خلال جمالية المشاهد في تجسيد الحالة النفسية للبطلة التي هي صامتة في الغالب. كذلك، تميز أداء الممثلة منال عيسى بعفويته وتماسكه، معززاً بالتالي من تناغم باقي عناصر الفيلم.
* «باريسية ـــ لا تخاف شيئاً» لدانيال عربيد: صالات «أمبير» (1269)، «فوكس» (01/285582)