في مساجلاته لمشاكل ومآلات المجتمع الأوروبي الحديث، لا تخلو سينما المُعلّم النمساوي مايكل هانيكي، من مفردات العنف والقسوة والرعب وبعض التشاؤم. سيرته الفيلموغرافية، قدمته كأحد الأصوات المجددة لإرث ثقافي وفكري أوروبي لا يقف عند إسم بحد ذاته، أو تيار ايديولوجي بعينه. قائمة مراجعه طويلة، تنهل من علم النفس وخلاصات فرويد، مروراً بتجديده لفكرة الإغتراب التي إشتغل عليها بريخت وقدمها في أكثر من عمل مسرحي، وصولاً الى معنى الوجود والكينونة للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، وإنتهاء بأفكار مدرسة فرانكفورت الشهيرة، خصوصاً تجليات الألماني تيودور أدورنو الفلسفية. منذ فيلمه الروائي الأول «القارة السابعة» وصولاً إلى «حب» (سعفة «كان» الذهبية 2012)، بقي هانيكي أميناً لرؤيته الفكرية والسينمائية. كان سلاحه في صياغة رؤيته الفنية التخفف من الإعتماد على المونتاج في رسم اللقطة، ونبذ مبدأ القطع السريع في توليف المشهد بما يترك للمشاهد متابعة الحوارات كاملة الى حد ما، وإطلاق العنان للكاميرا بإقتناص موضوعها حد الإشباع.

دروس كان لعمله الطويل في التلفزيون الأثر الكبير في صياغة أسلوبه المتقشف «المينيمالي».
القواعد أعلاه وظفها هانيكي ببلاغة في «حبّ» (127 د)، فكتب السيناريو من حكاية عالقة في ذهنه منذ الصبا، وبميزانية متواضعة (9 ملايين دولار أميركي). وقارب موضوعاً يطال معنى الحياة وجدواها حين يخون الجسد صاحبه في الشيخوخة. ولهذا الغرض استعان بالممثل الفرنسي القدير جان- لوي ترنتنيان، وأعاده الى دور مقارب لما جسده عام 1956 في شريط «وخلق الله المرأة» أمام النجمة الصاعدة وقتها بريجيت باردو. ومثله مواطنته الممثلة إيمانويل ريفا التي لعبت دورها الأول في «هيروشيما حبي» (1959) للمخرج آلان رينيه والمقتبس من عمل الكاتبة مارغريت دوراس. ممثلان فَصل لهما المخرج ما يليق بعمرهما الفني، ولموضوع، ربما، تعافه السينما. من لقطته الأولى، حيث يقتحم رجال الشرطة شقة، وتعقبهم لرائحة تنبعث من جثة سيدة هامدة في سريرها ومحاطة بالزهور، سيدرك المشاهد بأنّ فصولاً درامية في إنتظاره. ثم ينتقل الشريط الى عودة آن (ريفا) وزوجها جورج (تريتنيان) من حفلة، ليقدم لنا نبذة أولية عن حاضر أستاذي الموسيقى اللذين يبلغان الثمانين ويعيشان في شقة باريسية فخمة وسط مكتبة ومراجع كثيرة. في صباح اليوم التالي تصاب الزوجة بسكتة دماغية، ما يفقدها ذاكرتها وقدرتها على الكلام وحركتها وربما ذاتها. بإعتداد، يقرر الزوج جورج عدم نقلها الى المستشفى، على خلاف قناعة ابنته إيفا (ايزابيل أوبير)، ويطرد عاملة العناية الصحية كونها تنظر الى زوجته كعاجزة وليس لماضيها الحافل بالنجاحات. ذلك أنّ جورج، الزوج الوفي والخلص، أراد ان يبقي خيوط القرار بيده وحده.
عند هذه النقطة ينقل هانيكي وفريق عمله الشريط الى مستوى آخر. أبقى المخرج وتيرة الحنان والتفاهم والمساعدة بين بطليه كما هي. وبعيداً إبتذال العواطف إزاء حالة ميؤوس منها، جاءت الخاتمة كأنها مواجهة شجاعة وهادئة وعقلانية مع الموت. خاتمة وضع جورج نهايتها، وليدعونا نحن المشاهدين الى تأمل مصير محبين عاشا سعادة الحياة الزوجية لعقود طويلة، وجاء الأوان لمواجهة المحتوم. ببطء مدروس، وعبر حوارات قصيرة ومركزة، ولعبة الضوء والمكان والرمز والإستعارة، نسج هانيكي أسئلته المقلقة عن معنى الحياة وجدواها عندنفاد صلاحية العيش فيها. وما معنى الخيار الأخلاقي المُرّ إزاء هبة الحياة؟ وكيف تحفظ كرامة زوجة عاجزة لا شفاء لها؟. وهل الحل في الموت الرحيم؟. أداء بطلي الشريط أضاف لمسات آخاذة لموضوع ليس سهلاً الإقتراب منه فنياً، ولعمل استحق عن جدارة رهط الجوائز والثناء الذي قوبل به.





«حب»: أمبير صوفيل» (01/204080)، «سينما سيتي» (01/899993)