كان | على مدى ساعتين تقريباً، تحوّل «مهرجان كان السينمائي الدولي» إلى حمّام دم، مع العرض الأول لفيلم «المادّة» للفرنسية كورالي فارجا. صحيح أنّ المفوض العام للمهرجان تييري فريمو، حذّرنا خلال المؤتمر الصحافي، قائلاً إنّه غير مناسب لذوي المعدة الحساسة، ما جعلنا نعتقد أننا أمام فيلم يشبه فيلم «تيتان» للفرنسية جوليا دوكورو، الفائز بالسعفة الذهبية عام 2021. كلا الفيلمين من إخراج فرنسيتين تشعران بالارتياح تجاه ما نسمّيه «رعب الجسد»، إلا أنّهما تلعبان في هذا الملعب بطريقة مختلفة. «المادة» أكثر تطرّفاً وجنوناً، تحميه أجندته النسوية إذا صحّ القول، وهو أكثر متعة. لذلك، فتحذير فريمو كان في محلّه، أو بالأحرى كان من الأفضل أن يقول إنّ مَن لا يحتمل أن يشاهد جنوناً وقذارةً، وقيئاً، ودماء، وأحشاء، وأجساداً جميلة عارية، لا يقترب حتى من صالة العرض. «المادة» ذو فكرة بسيطة وصلت إلى حد التطرّف، «نسوي» لمن أراد تسميته ذلك، صريح ومباشر، متنكّر في هيئة مواجهة وحشية بين امرأتين، أو لنكن أكثر دقة، حرب امرأة مع نفسها بسبب نظرة الآخرين القاسية إليها.في عودة موفّقة وعظيمة إلى الشاشة الكبيرة، تجسّد ديمي مور دور ممثلة مشهورة تدعى إليزابيت سباركل. ولأنّ العمر لا يغفر، فهي على وشك أن تفقد وظيفتها في برنامج تلفزيوني للّياقة البدنية على طريقة جين فوندا. عندها، تكتشف وجود مادة قابلة للحقن، تسمح لها بالحصول على جسد ثانٍ، أكثر شباباً ونشاطاً. «المادة» المعنية عبارة عن سائل أخضر لزج يستخدمه الناس لتجديد الخلايا ويسمح بتحويلك شخصاً أكبر حجماً، أصغر سناً ذا كمال جسدي مهيب. بعد الحقنة الأولى، تتلوى إليزابيت العارية من الألم على أرضية حمّامها المبلّط باللون الأبيض في شقتها الفاخرة المطلة على هوليوود. يبدأ ظهرها وعمودها الفقري بالانشقاق حرفياً، وتخرج منه امرأة أخرى. الان سو (مارغريت كواللي)، هي النسخة الشابة من إليزابيت، فتبدأ بتخييط ظهر الأخيرة، وتستخدم حقنة طويلة لسحب النخاع العظمي منها، الذي يجب على سو حقن نفسها به يومياً. ولكي تنجح التجربة، يجب اتباع قواعد صارمة جداً مثل إرساء توازن بين حياة اليزابيت وسو، بحيث تتناوبان على الظهور كل أسبوع. كما يجب أن لا تنسيا أنهما الشخص نفسه رغم كونهما جسدين مختلفين. مع مخالفة تلك القواعد، يبدأ الفيلم باتخاذ منحى لم يكن أحد مستعداً له.
إذاً، «المادة» فيلم حول الصور النمطية الجمالية والسلوكية التي يجب على المرأة الالتزام بها كي تكون مقبولة في عُرف المجتمع. وقالت فارجا في المؤتمر الصحافي: «في المجتمع اليوم، يُحكم على الرجل والمرأة بطرق مختلفة، وتُعامل النساء وفقاً لطريقة لبسهن وجمالهن وأعمارهن. نحن نعيش تحت المنظار الدقيق باستمرار». تدّعي فارجا أنّ أفلامها هي انتقام من الطريقة التي يُنظر فيها إلى أجساد النساء. لذلك، ليس من قبيل المصادفة أن يكون فيلمها الطويل الثاني، مخصّصاً لتفجير الجمال التقليدي لهذا الجسد. في الفيلم تتساقط الأسنان والاذنان، وتقتلع الأظفار وتتشوّه العظام، وتخرج الأحشاء، ويتحول الجسد الجميل إلى كتلة لحم مشوّهة.
نعم، هناك تمييز على أساس الجنس، وتسليع للعلاقة الحميمية، والرجال سخيفون وبشعون، وخصوصاً مدير التلفزيون هارفي (دنيس كويد)، الذي تعمل فيه اليزابيت وسو بعدها. تتألّق ديمي مور في هذا الدور الذي يناسبها تماماً، وتصل إلى حدود لم يسبق لها مثيل في حياتها المهنية. تستخدم فارجا العدسة الواسعة القريبة من وجه هارفي عندما يقضي حاجته في المبولة أو عندما يأكل، ويضع الروبيان في فمه بطريقة مقزّزة. تتحرك كاميرتها أيضاً بطريقة قريبة جداً من أجساد نسائها العارية ومؤخرة سو. فيلم يلعب لعبة الاستفزاز الصريح والمباشر، وهو خطير بما فيه الكفاية لأنه يستحيل أن تكبح ضحكتك خلال الساعتين والثلث الذي يستمر فيها الفيلم. كل شيء وحشي، غير لائق، قبيح، يتضمن أيضاً اشياءً لا يمكن وصفها بالكلمات. يترك الفيلم بعضاً من سوائله على وجهك وداخلك، قد يكون هذا تصريحاً نسوياً، لكن كل هذا التطرّف يجعل الفكرة «النسوية» للفيلم تغرق في بحر من الأحشاء. لكن لا يزال الفيلم قوياً بطريقته الخاصة، ومتطرّفاً إلى حد لا يمكن تصوّره.