كان | بعد بداية فاترة تقريباً، ثم الزلزال الذي أحدثه فيلم «ميغالوبوليس» لفرانسيس فورد كوبولا، وصل «مهرجان كان السينمائي الدولي» إلى يومه الخامس من دون فيلم يرقى إلى نيل «السعفة الذهبية». كان هذا الفيلم مفقوداً، إلى أن وصل الفرنسي جاك أوديار مع «إميليا بيريز». في الثانية والسبعين من عمره، وصل أوديار إلى «كان» وكسر كلّ توقعاتنا. قفز فوق الهاوية، وغامر بفيلم غنائي، ومسرحية موسيقية حول تاجر مخدرات في المكسيك قرّر تغيير جنسه لتحقيق حلم طفولته. والنتيجة لا يمكن إلا أن تكون مثيرة للإعجاب، سواء لمهارة الفرنسي السينمائية، أو لقدرته العبقرية على النقد والإدانة. إذاً، أوديار مرشّح بقوة لنيل «جائزة السعفة الذهبية»، للمرة الثانية بعد فيلمه «ديبان» (2015) بفضل حبكة مدهشة، وخصوصاً بالطريقة التي يراقص فيها عناصر فيلمه على الشاشة، ويدمج الغناء المسرحي بالرومانسية وبالعنف. وفي الوسط ميلودراما عن شخصية أنثوية خُلقت لتكون رئيسة العصابة والأم والأب والأخت والصديقة والحبيبة.ريتا (زوي سالدانيا) محامية تكره عملها بسبب إجبارها على الدفاع عن الرجال الذين يعنّفون زوجاتهم. في إحدى الليالي، تُختطف وتُنقل عند مانيتاس ديل مونتي (كارلا صوفيا غاسكون)، رئيس أكبر وأخطر كارتل مخدرات في المكسيك. يريد ديل مونتي منها العثور على أفضل جرّاح في العالم، لأنه قرّر تحقيق ما كان يريد أن يكون عليه منذ طفولته: امرأة. يتحول مانيتاس إلى إميليا بيزير (كارلا صوفيا غاسكون تلعب الشخصيتين)، ويختفي الرجل لتأتي مكانه امرأة بعيدة كل البعد عن الإجرام، تحاول تصحيح ماضيها، ولكنّ هذا التغيير سوف يتسبّب في الكثير من المشكلات، وخصوصاً مع زوجته (سيلينا غوميز).
في هذا الفيلم الغنائي، يفرض أوديار مقاطع غنائية سواء عن طريق مزج كوريغرافيا غنائية، أو تحويل الواقع اليومي كخشبة مسرح، فيبث الفوضى في شوارع المكسيك لتتحول إلى مسارح غنائية. وضع أوديار كل أوراقه على الطاولة منذ البداية بطريقة مدهشة، وخلق معجزة من التمثيل والخيال والموسيقى والانتقال بين السيناريوهات. في «إميليا بيريز»، يقفز أوديار من دون حماية، فهذا الفيلم الذي يعدّ الأكثر طموحاً، هو هذيان صاف حيث الميلودراما والمخدرات والسينما والسياسة والموسيقى بطريقة لم نكن نتوقعها.
كان أوديار جريئاً بالطريقة التي تعامل بها مع الواقع المكسيكي، وجامحاً بنهجه الأخلاقي للفيلم، إذ يلقي نفسه بلا خوف في موضوع المكسيك والمخدرات بطريقة لم يسبقه إليها أحد. وكان مدهشاً في تعامله مع مواضيع العنف والغموض والغفران، التي تثير أسئلة كثيرة مثل: كيف يمكن أن نغفر لقاتل؟ أو نفاق هؤلاء الذين يريدون تصحيح ماضيهم العنيف؟ يُحسب لأدويار أنه تعامل مع هذه المواضيع بشكل مباشر، من دون الابتعاد عن علاقة المكسيك التاريخية والمعاصرة المتضاربة مع تجارة المخدرات.
في النهاية، لا بد من أن نتحدث عن الممثلة كارلا صوفيا غاسكون (المتحوّلة جنسياً عام 2018)، التي وضعت وجهها على النسخة الذكورية والأنثوية لإميليا، التي لن تغير جنسها فقط، بل أيضاً أخلاقها، لتتحول من جلّاد مخيف إلى منقذة مشهورة.