I ـــ عنق متمدّدٌ، يوصل ساحة الشهداء – ساحة البرج، وساحة رياض الصلح. أو، ما كان قبل «سوليدير»، ساحة مميَّزة، في النسيج المديني، يتوسط قلبها المثلَّث، نصب رياض الصلح، لتسمَّى باسمه.
الثلاثاء في 5 كانون الثاني، 2021. في جانبي العنق، نسيج معقّدٌ: في شمال العنق: محتلّاً كل الزاوية، جامع محمد الأمين. يليه المدخل الخلفي للجامع، ثم كنيسة صغيرة، أمامها ساحةٌ، وسورٌ من الحديد. جدار الكاتدرائية الشرقيّ، هو حدود الساحة، في وسطه باب. كاتدرائية مار جرجس المارونية، وقبَّة جرسها المرتفعة، تنهيان النسيج المبني في شمال العنق. أما طرف العنق، فهو حديقة السماح، أو حفرة السماح، المهجورة منذ ثلاثة عقود. في جنوب العنق: نسيج مبني، عملاقٌ، ممتدٌّ، من شارع بشارة الخوري، حتى شارع سورية. عمارة، تصنع لوحدها، جنوب العنق.
في شمال العنق: جامع محمد الأمين الذي يحتلُّ كل الزاوية. جدار حجره أصفر. فتحاته مدفونة بالحديد الرماديّ. عرفتها في 9 آب 2020، جميلة. أستغرب أن أراها اليوم، مدفونةً، كالمتاجر المجاورة. زجاجٌ مزخرفٌ؟ متعةٌ للناظر، وضوءٌ للجامع؟ مدفون اليوم؟ لا أُدراك سبب هذا الدفن. يرسم جدار الجامع، ورواق كاتدرائية مار جرجس المارونية، حدود النسيج المبنيّ في شمال العُنُق. تنظرُ إلى كتلة الجامع، فتمتعك رؤية القبَّة الرئيسة الزرقاء. عمارة الجامع عثمانية. مآذنه الأربع مروَّسة. يحدُّ الجامع غرباً، منحدَرُ مدخله الخلفي، الشامخ في رواقٍ مهيب.
نقف أمام الزاوية الرواق، حديقةُ السماحِ تحوطُنا. نكرر اليوم، من يسامح من!؟ في حديقة السماح!؟ ويبقى السؤال الأكثر أهمية، هل من حديقة؟ في هذه الحفرة المخيفة!؟ الحفرة المنسية؟
إلى الشمال، نرى الجزء الخلفي من فندق «لوغراي»، مدفوناً بالحديد الصدئ. تتيح الحفرة المهجورة، رؤية بانورامية، لجزء النسيج المبنيّ المختبئ. المنظور جميل.
كاتدرائية مار جرجس للروم الأورثوذكس، بتواضع فتحاتها. قبالتها كاتدرائية الروم الملكيين الكاثوليك. الواجهة الخلفية، لكاتدرائية مار جرجس المارونية. حجرها الرملي العتيق. أقواسها نصف الدائرية. شرفتها الناتئة في فرندا واسعة. تُطل قبَّة الجرس الجديدة، فوق أسطح هذا النسيج المقدَّس. المنظور إلى الغرب، مهيب. الواجهة الخلفية لشارع المعرض، تبدو بحجرها الأصفر، كأنها رُسِمت على لوحة زرقاء. واجهة، منتظمة الفتحات، جميلة. في أعلاها أقواس نصف دائرية. معظم الفتحات، مدفونة. شجر الزيتون العتيق، يحوط سيدة النورية. إنه حضور يرمز إلى درب الجلجلة. إلى القيامة.
الكنيسة المتواضعة، بعد المنحدر. الكنيسة، متواضعة، أمامها ساحة، أكرّر. رواق في محور الواجهة، يحمي بابها الرئيس، المحطَّم. كلّ نوافذها، محطّمة ومدفونة. كاتدرائية مار جرجس للموارنة: الواجهة الجانبية للكاتدرائية، من الحجر الرملي العتيق، كسائر جدران الكاتدرائية. كجارتها، كل شبابيك الطابق الأرضي، مدفونة تحت ألواح الحديد القاتم. فتحة رواق الكاتدرائية الجانبي، مدفون بدوره.
لقد رسم المعمار لوكونت، مبنى مطار بيروت القديم، الذي كان جميلاً، والوصول عبره إلى الطائرة سهلاً ومريحاً


واجهة الكاتدرائية الجنوبية والمدخل الرئيس: في منظور جانبي، نقرأ الكاتدرائية، كتلة وعمارة. مبنى الكاتدرائية، من الحجر الرملي العتيق. وحده الرواق، حيث باب الكاتدرائية، هو من رخام «الكرَّارا» الإيطالي. زجاج الكاتدرائية في الطابق الأرضي، لا يزال محطَّماً. استُبدِلت الألواحُ الخشبية به. وكل الفتحات العليا، قد حُجبتْ بستائر من النايلون الأبيض، المسلَّحة بعوارض خشبيَّة.
في 9 آب 2020، كانت واجهة الرواق الرخامية، مكسوَّة بالكتابات الهابطة، وبالشتائم. خواءٌ فكريٌّ، وفقرٌ سياسيّ. كلُّها ملوَّنة، كلُّها من عائلة أيـ ۰۰۰ي بجبران باسيل، بدي نـ ۰۰۰ك ميشال عون... إلى آخر المخزون الهابط ، عند صبية الحراك.
اليوم الثلاثاء في 5 كانون الثاني 2021، نُظّفت الواجهة الرئيسة. لا كتابات ملوَّنة، ولا شتائم. تمَّ محوُ الكتابات والألوان. إلا أن أثرها، لا يزال ظاهراً. الرواق الرخامي، مدفونة فتحاته بالألواح الخشبية السميكة. وحده، باب الكاتدرائية خشبي مرمّم، يساهم بلمعانه، في الدلالة على أهمية الكاتدرائية.
غرب الكاتدرائية، تنتصب قبَّة الجرس الجديدة. قاعدتها عريضة. طوابقها متعدّدة. تُصبحُ مساحة الطوابق العليا، صغيرةً. المفردات المعمارية متعدّدة. عَمودية متجاورة، نصف دائرية، كروية. وفي منظور شامل، نلحظ طموح القبة الجديدة، إلى موازاة المآذن المرتفعة في جامع محمد الأمين. إنه حضورٌ في مكانٍ، هيمن عليه الجامع الجديد.
بعد الكاتدرائية وقبة الجرس، واجهة حديقة السماح، والمنظور إلى الشمال، وإلى الشرق.
حديقة السماح المنسيَّة، هي حفرةٌ دائمة، في جوف الأمكنة. في واجهتها، الأعمدة الرومانية الغرانيتية. تجاورها أحجار ضائعة، في تجاويف الحفرة. نسيت «سوليدير» خطابها حول الحديقة والسماح، وبقيت الحفرة حاضرة، فيها مبعثراً، بعض التاريخ.
هنا كان الدرج، الموصل إلى سوق البيض وإلى سوق الدجاج، وإلى سوق النورية. أما اليوم، فالحفرة الحديقة، تهدينا منظوراً يكشف عمارة كاتدرائية مار جرجس للروم الأورثوذكس. كما تهدينا منظوراً آخر، يُحزننا فيه، دفن الواجهات الخلفية، لمباني المعرض.

في جنوب العنق
في جنوب العنق ، مجمَّع اللعازاريَّة التجاري والإداري، ببرجه المرتفع، وبكتلته الضخمة. سوق تجاريٌّ كبير، وبرج وطوابق إداريَّة، بفناء داخلي، وعشراتُ المتاجر. يحتلُّ المكانَ، بين شارع بشارة الخوري، وشارع سورية. في الفناء، كتلة مبنية من طابقين. مُجمَّع ميت. حالةٌ جنائزيةٌ، سقطت مع السماء، فوق الأمكنة. موتٌ فعليٌّ. مناخ عام يحكي تراكم المدافن. حضورٌ مأساويٌّ، لا يحتمل.
غابت الحياة. ولا قيامة مرتقبة. فأعمال إعادة الإعمار، معقَّدة ومكلفة. وتتطلب سنوات، وأموالاً. رسم المجمع المعلّم الفرنسي الكبير لوكونت، المعمارُ المرموق، في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، المسمَّاة «البوزار»، مانحةً درجة D.P.L.G، دبلوم دولة في العمارة. من حملة هذا الدبلوم، الراحلون، بيار خوري، وبيار نعمة، ووليم صيدناوي... وغيرهم.
لقد رسم المعمار لوكونت، مبنى مطار بيروت القديم، الذي كان جميلاً، والوصول عبره إلى الطائرة سهلاً، ومريحاً.
المجمَّع اليوم، مخلَّعٌ، محروق، منهوب، عارٍ. ترى عريه، فتتقيَّأ. كل التجهيزات في المؤسسات، محطَّمة، محروقة، ومنهوبة. الأسقف المعلَّقة، قنوات التهوئة والتكييف، التجهيزات الصوتية وتجهيزت الإنارة، كلُّها ركام معلَّق في الأسقف المحروقة، أو ركام مكدَّس فوق البلاط. لا زجاج يحمي الواجهات. باب الحديد الجرار شبكي. وكل المتبقّي، هو في متناول الصبية.

التياترو الكبير عمل المعمار والوزير يوسف بك أفتيموس

أُريدَ للموتِ هنا، أن يبقى حاضراً. أُريد للقبرِ أن يبقى مفتوحاً. أُريد لنا أن نشارك في جنازة دائمة. بارات متجاورة محروقة بكل ما فيها. الحريق في الأسقف، وفي كل الموجودات.
رغم ذلك، بعض المؤسسات تعمل. شركة النقل السريع العالمية DHL، تركت مكاتبها المحروقة في الزاوية، وهي تعمل الآن في مجال له واجهة زجاجية ضيّقة. مؤسسة تأجير السيارات Advanced، تعمل الآن بجوار مؤسسة DHL الرئيسة المحروقة. الطوابق الإدارية، تعمل رُغم المناخ الجنائزي المقيت. في المجمع الآن وزارتان، وزارة البيئة، ووزارة الاقتصاد.
مجمَّع اللعازارية، ومعجم صبية الحراك، والثو..ثو...ثورة، في السباب والشتائم، واللغة الهابطة. في مجمَّع اللعازارية، واجهات المتاجر والمؤسسات تُعدُّ بالعشرات، والفواصل الحجرية الصفراء بينها، كثيرة. والجدران المكسوَّة بالحجر الأصفر، كثيرة أيضاً. والجدران الحجرية الصفراء تلفُّ الكتلة المبنية وسط الفناء الداخلي.
وسط هذا الثقل الجنائزي، تصدمك الكتابات، تغطّي كل الأمكنة. كتابات غليظة ملوَّنة، حمراء، زرقاء، خضراء، سوداء.
تقف في الفتحة الكبيرة، تنظر، تغيّر وجهة نظرك، الكتابات الملوَّنة في كل مكان: أمامك، خلفك، فوقك، على الرصيف تحت قدميك، على يمينك، في البعيد على الجدار المقابل. جهنَّم من الكتابات الهابطة، تحاصرك من كل صوب. تفقد القدرة على التوجُّه، لأن تشابه الكتابات يضيّع المعالم. فتتسمَّر في مكانك، ناظراً إلى الحائط القريب. كلمة ثورة معمَّمة على الحائط، مكتوبة بألوان الموسوعة اللغوية، التي تحوطها. فهي مكتوبة بالأحمر، وبالأسود، وبالأصفر، وبالأخضر. مكتوبة على الجدار أمامك، وعلى الجدار البعيد.
تقترب. موسوعة صبية الحراك اللغوية فقيرة. مفرداتها معدودة، ومحصورة بالشتائم، وبالألفاظ النابية. أيـ۰۰۰ي، بميشال عون. بدي نـ۰۰۰ك ميشال عون. جبران باسيل ك۰۰۰ أمو. بدّي نـ۰۰۰ك جبران باسيل. لا سياسة في الموسوعة اللغوية لصبية الحراك. لا وجود للفكر السياسي الثوري، في الموسوعة اللغوية، لن نقبل تجاوزاً بتسميتهم «صبية الثورة». الثورة فكرٌّ ثوريٌّ، وفعل ثوريٌّ، وبرنامج طبقيٌّ ثوريٌّ واضح، لانتزاع السلطة، من قبضة التحالف الكومبرادوريّ الحاكم. وما نقرأ في الخربشات الملوَّنة، هو هذيان صبية الحراك. هو لغتهم الساقطة أخلاقياً. الهابطة قيميّاً. الفارغة فكرياً. البعيدة عن حاجات الناس.
ما نقرأه في الخربشات الملوَّنة على الجدران، حيث أرخى ثقله الطيف الجنائزي، هو التعبير الملوَّن، عن الخواء السياسي، وعن الانحدار المفزع نحو قاعِ التخريب، والفوضى.
من هذا الوضوح في القراءَة، وفي الرؤية السياسية، نتمنَّى على «الرفاق»، أن لا يرسموا بالأحمر، رمز الطليعة الثورية للطبقة العاملة، «المطرقة والمنجل» وسط هذا الهذيان المعمَّم بالألوان، على جدرانِ مدافن، هي من صنع صبيةِ الحراك أنفسهم.
نتمنَّى على «الرفاق»، أن لا يهبطوا بالرمز الأمميّ، إلى هذا الدرك، فيرسموه وسط مفردات الانحطاط والهذيان.
نتمنَّى على «الرفاق» أن يعمدوا فوراً، إلى إزالةِ هذا الرمز، من كلّ الأماكن التي يختلط فيها، مع هذيان الصبية، ومع خوائهم،
نتمنَّى على «الرفاق»، أن لا ينحدروا بالرمز الأمميّ، إلى قاعِ، حيث التدمير، والفوضى، أكرّر.

II ـــ شارع سورية
يطلُّ عليه، رواق مجمَّع اللعازارية، مكمّل رواق المعرض الشرقي. قبالة المجمَّع غرباً، التياترو الكبير ورواقه، مكمّل رواق المعرض الغربي. بعده طريق خلفي. في المخطط الذي أعدَّه الراحل هنري إده، لإعادة إعمار قلب بيروت، شارع سورية هو المكمّل لشارع المعرض. إنه نهاية المحور عند جادة الرئيس فؤاد شهاب. ارتكز الفكر التخطيطيُّ، عند الراحل هنري إده، على ثلاثة محاور: أولها، محور ساحة الشهداء، المفتوحة على البحر. وثانيها، محور السلطة التشريعية، وهو موضوعنا. شارع المعرض، هو مكوّنُ المحور الرئيس، وشارع سورية، هو امتداده جنوباً، وشارع اللنبي، هو امتداده شمالاً، ممتداً داخل مياه البحر. يطلُّ على شارع سورية، رواق مجمع اللعازارية. خلف أعمدته، كل الواجهات محطَّمة، ومحروقة. ولا يتخلَّى صبيةُ الحراك، عن هوسهم بالكتابة البذيئة. شتائم، في لغة هابطةٍ، رأيناها تغطّي، كلَّ جدران المجمَّع. شارع سورية، مقفل بالكتل الخرسانية، تغطيها الكتاباتُ والرسومُ. رواق مجمَّع اللعازارية، مقفل بدوره، بحاجز من الحديد. في الحاجز بابٌ، يوصلُ إلى بناء «المركزية» وبعده إلى جادة الرئيس فؤاد شهاب.

التياترو الكبير ورواقه، والطريق المحاذي لواجهته الخلفية
«التياترو الكبير» مبنى تاريخي، قائم بين طريقين. المبنى مرئيٌّ بكامله. رواقٌ منتظم، يُطل بواجهته الرئيسة وببابه الرئيس، على الكتل الخرسانية التي تُقفل شارع المعرض، وقد غطَّتها الكتابات الملوَّنة، تحاكي شقيقاتها في مجمَّع اللعازارية. كتب عمارة «التياترو الكبير»، المعمار والوزير، يوسف بك أفتيموس. رواق منتظمٌ. نوافذ متناسقة. فتحة مهيبة، تحتضن الباب الرئيس.
رواق «التياترو»، مقفل بجدار من الحجر الخرساني. في أعلى الجدار، زُرِعَتْ شظايا الزجاج المحطَّم. تنطُقُ عِمارةُ «التياترو»، وحشةً وهجراً. طيف الدفنِ الجنائزي، لفَّ المبنى، فبدا في عتمته، قبوراً متراكمة. قبالة «التياترو الكبير»، بجانب بوابة شارع المعرض المقفلة، بنك لبنان والمهجر، بواجهاته الثلاث، مدفون بألواح الحديد السميكة. حرص الدافنون، أن لا يكون الدفن، موحشاً، كما في فندق «لوغراي»، فطُلي حديدُ الدفنِ، بلونٍ أصفر متناغمٍ، مع الحجر الذي يكسو المبنى.
لم يعرف شارع المعرض، الحياة النابضة المستمرة، منذ الحرب الأهلية في عام 1975. قتلته الحرب بداية. ثم عاد إلى الحياة مع إعادة الإعمار. فازدهرت فيه وظائف، لم يعرفها في الماضي، المطاعم والمقاهي الفاخرة. لم يدم هذا الازدهارُ. أُقفلت كل المطاعم والمقاهي. ثم أَرخت الأوضاع الحالية بثقلها، فمات شارع المعرض، وماتت معه ساحة النجمة، بعدما سُدَّت بإحكام، كل الطرقات التي توصل إليها. حوصرت ساحة النجمة. انتُزِعت من نسيج المدينة. هجرتها الحياة، بعد أن غادرها ناسها. الدم المتدفّق في شرايين المدينة، قطع عنها، فماتت. وخيم فوقها طيف الرحيل، الذي لا ينتظر قيامة. وأصبحت ممراً لسيارات النواب، في اجتماعات محدودة العدد. إذ حتَّم التباعدُ الضروري، أن تُعقد الجلسات العامة، في قصر الأونيسكو.
ما نقرأه في الخربشات الملوَّنة، هو هذيان، فالثورة فكر وبرنامج طبقي ثوري واضح لانتزاع السلطة، من قبضة التحالف الكومبرادوري


قبالة الطريق المحاذي للتياترو الكبير، عند حدود ساحة رياض الصلح، نمرُّ أمامَ بوابة شارع المعرض، المحصنة. اقتطاع ساحة النجمة، يصدمنا بإصرار. بعض المتاجرِ، المقابلة لمبنى «التياترو الكبير»، مدفونة بالحديد المطليّ باللون الأسود القاتم. في أحدها مدخلٌ ثقبٌ. ندخل. المجالات منظّمة. في بعضِها أثاثٌ مكتبيٌّ كاملٌ. موظَّف يجلس خلف حاسوبه.
بعد المدافن السود هذه، مجالات واسعة مشرَّعة. لا هياكل من الألمونيوم. لا واجهات زجاجيَّة. لا أبواب معدنية جرَّارة. مجالات سائبة، مهجورة، كتلك التي عرفناها في شارع ويغان. مدافن خُلِعَتْ أبوابُها، ليحتلَّها الشارع. الميتُ في الأمكنة التي اقتحمتها العتمة الجنائزية، هو المدينة – بيروت، هو البلد.
الجدران والأسقف والبلاط، كلَّها ألواح بلونٍ مضيء تغطيها الكتابات ذاتها. هابطة، رخيصة، لا سياسة فيها. وحدها الشتائم. وحده، القاع الأخلاقي، يملأ موسوعةَ صبية الحراك. أكاد أقول، إن صبية جفري فيلتمان، الذين أنفق عليهم مليارات الدولارات، وفق شهادته أمام الكونغرس الأميركي، قد ملأوا الأمكنة تدميراً عدمياً، وكتابةً رخيصة، هابطة. بدّي نـ۰۰۰ك ميشال عون، أيـ۰۰۰ بميشال عون. «ميشال عون عر۰۰۰». تذكّرنا بالشعار العتيق، بدنا نسقّط عهد العرص – كرمالك يا كارل ماركس. والآن، على الجدار أمام ساحة رياض الصلح، هيلا هيلا هيلا هو جبران باسيل ك۰۰۰أمو.

III ـــ ساحة رياض الصلح
نمهّدُ للدخول إلى ساحة رياض الصلح في جولتنا هذه، خمسة أشهر بعد الانفجار النكبة.
الثلاثاء في 5 كانون الثاني 2021. عند الحدود الشرقية لمبنى العسيلي، مسرب صغير إلى ساحة النجمة، مقفل بالكتل الخرسانية. شرق المسرب الضيّق، بناءٌ من عدَّة طوابق، وشرفات ممتدَّة، تُطلُّ على بناية العسيلي. باب المبنى، في منتصف المسرب. في الطابق الرابع من المبنى، كان يوجد محترف المعمار الراحل، صلاح الدين العطَّار. في عام 1959، كنت أفتّش عن مكان أعمل فيه، بعدما عملت سنة ونيّفاً، في محترف الثلاثي، بهيج خوري المقدسي، وشارل شاير، والراحل واثق أديب. عملت في تلك الفترة، أي في عام 1959، في محترف صلاح الدين العطَّار. وكانت تجربتي الثانية في العمل. كان في محترف صلاح الدين العطار مهندس إنشائي، ورسَّام. وفور دخولي، أصبحت المعمار المسؤول فيه. رسمنا في هذا المحترف مبانيَ عدة. منها مبنى كبير في صيدا. كان لصلاح الدين العطَّار، معرفة وثيقة، بالمغترب حسن السعيدي، والد الوزير، والنائب الأول لحاكم مصرف لبنان، الدكتور ناصر السعيدي. رسمنا له فندقاً في لاغوس، في نيجيريا. ورسمنا في لبنان، مبنى عند مستديرة الطيونة، فيه قاعة للسينما، مجهَّزة. وآخر في طلعة أوتيل ديو، حوى أيضاً قاعة سينما مماثلة. ثم رسمنا، في شارع الصيداني، مبنى سكنياً، أصبح مقراً لوزارة الاقتصاد. ثم رُمّم، وعاد إلى وظيفته الرئيسة.

حفرة السماح وواجهة المعرض الخلفية

أُتبِعُ هذا التمهيد، وقبل الحديث عن المستجدّ في الساحة، خمسة أشهر بعد الانفجار النكبة، بفقرات مما كتبته عن قراءَتي في مجال الساحة، وفي حدودها، وذلك في جولتي الثانية، في 9 آب 2020.
سقطت السماء على أرض الساحة. ظهراً. الشمس معلّقة فوق الساحة. في فضاءٍ لا لون له، ولا حدود. ترسل الشمس أشعتها، فتقف عند حدود السماء التي سقطت. يملأ الضوء محيط الساحة... وحدها أرض الساحة غارقة في العتمة. أفتش عن نصب رياض الصلح فأجده بصعوبة، وقد ضاع، بين الشجر على الرصيف. لم يعد لرياض الصلح علاقة بشارعه، «شارع رياض الصلح». لقد أصبح الشارع اليوم يختصر وظيفته، شارع المصارف. كانت الساحة مثلثة فسيحة. انتصب تمثال رياض الصلح في وسطها. وأطل من مكانه، على الشارع، وعلى الساحة.
ثم كان الإعمار في منتصف تسعينيات القرن الماضي ... شوَّه هذا الإعمار الأمكنة. أضيفت الإسكوا، بواجهة زجاجية. وجهتُها الجنوب، غير مكترثةٍ بوجود الساحة والنصب. ثم افتُعِلَتْ أمام الإسكوا جنوباً، حديقة جبران خليل جبران. وصار مبنى الإسكوا وحديقته، المكوّن الرئيس في المكان... فضاعت الساحة الجذابة. غابت. اختفت.
ماذا في الساحة اليوم؟ كانت الساحة إلى الأمس القريب، تعجّ بالناس، تنبض بالحياة، حول نصب رياض الصلح، وفي أرجاء الأمكنة. كانت حركة السيارات فيها لا تهدأ.
ماذا في الساحة اليوم؟ أكرر! مكان الساحة، مسطَّح إسفلتي مقفلٌ، لا حياة فيه. سقطت السماء فوقه، وغرق في عتمة دائمة. لم يستطع أحد رفع السماء، لتضيء الشمس المكان مجدداً. لا هوية للساحة في حالتها الحاضرة. قبل الانفجار النكبة، وبعدها. ولا دور لها في قلب المدينة. يتجمَّع فيها بعض الحراك أحياناً. يجتازون العتمة. يقفون صفوفاً أمام الشريط الشائك المحصَّن.... يشتمون. يعودون بعد هذا الصراخ، إلى أماكن أخرى مشابهة.
ماتت الساحات في المدينة. ساحة النجمة بداية وهي قلب القلب. ثم ساحة الشهداء. وفي آخر المسار، الشريط الشائك، في آخر العتمة. ماتت المدينة، ماتت بيروت، الأفق أسود قاتم.
ماذا في الساحة اليوم!؟ ماذا استجدَّ بعد خمسة أشهر على الانفجار النكبة!؟ ماذا في الساحة اليوم، الثلاثاء في 5 كانون الثاني 2021.
الساحة، محاصرة، بالكتل الخرسانية. إنها مدفونة بإتقانٍ، أعلنها جثة، لن تعرف قيامة قريبة. ماتت الساحة. اغتالها مشروع إعادة الإعمار. اغتالتها شركة الهدم والردم، «سوليدير». عدت لأفتش عن تمثال رياض الصلح. لعلَّهُ أعيدَ إلى وسط مثلَّثه الشهير. دُمّر المثلَّث المتدرّج، وتمثال رياض الصلح، لا يزال ضائعاً. كرَّرت البحث عنه. فوجدته مخطوفاً فوق الرصيف، وسط الأشجار. لم تحمل الأشهر الخمسة معها، أي جديد يحسّن موقع رياض الصلح، في المكان المسمَّى ساحته.
الجديد، الجديد الكارثي، الإكثار من الدفن، وصدمة القبور التي تملأ الأمكنة. فالحياة فارقت مبنى العسيلي، ودفن طابقه الأرضيُّ بكامله، تحت طبقات الحديد، المطليّ بألوان الموت.
سقطت السماء على الأرض قلنا! سقطت فوق المدافن، في الساحة الراحلة، وفي العنق الموصِلِ إليها.

ماذا في الساحة اليوم!؟
بناية العويني بالدرج الذي يلتف حولها، مزنَّرة بالكتل الخرسانية. وحده بابها، ومنحدر المرآب، ظاهران. تحوط الباب والمنحدر حراسة مشدَّدة.
مبنى الإسكوا، بزجاجه، وبحجره الأصفر الملتفّ، وبحديقة جبران خليل جبران، أمامه، مزنر اليوم، بجدار خرساني شاهق الارتفاع، فوقه سور إضافي من الحديد. ابتلع هذا الجدار الأصمُّ، معظم الجادة التي تحاذيه. وبقي من الجادة، مسرب ضيّق للسيَّارات الآتية من البسطة، باتجاه ساحة الشهداء، وأرجاء المدينة. اختفى مبنى الإسكوا، بحديقته، خلف هذا الساتر القاسي. فسمَّى صبية الحراك هذا الجدار الساتر: جدار الثورة. وغطّوه بطبقات الكتابات الهابطة المعروفة. ثقب في الجدار، يدلُّ على باب الإسكوا الرئيس.
ماذا في الساحة اليوم!؟ الساحة المهمّة، والجميلة، والملائمة للتمثال الذي سميت باسم صاحبه. هذه الساحة ماتت، مع فقدانها وظيفتها، وأصبحت طريقاً تافهاً، لعبور يوميّ عاديّ للسيارات.
ماذا في الساحة اليوم!؟ الشريط الشائك، والكتل الخرسانية المتلاصقة، هذه العمارة بجزءيها، التي شُيّدتْ في طرف الساحة، لتحمي السراي الكبير المنتصب قبالتها، كانت عنصراً مهماً، من عناصر موتها. لقد قطع هذا السور الحامي، كلّ الشوارع والطرق هناك. قطع شارع الجيش، الملاصق للسراي صعوداً، نحو محلة القنطاري. قطع الطريقَ المنحدرَ والآتي، استمراراً لشارع موريس باريس، من منطقة زقاق البلاط. وقطع الطريق الذي يلتفُّ خلف مبنى البان أميركان، ليصل إلى منطقة الكبوشية، وباب إدريس، والأسواق. أُقفل بإحكام وبجدار صلب، مدخل شارع المصارف، أمام مبنى البان أميركان. عطَّل هذا السور، العقدة المميَّزة لحركة السيارات في الأمكنة هناك. قتل مفاصل الحياة عبر الساحة. ماذا في الساحة اليوم!؟
مبنى البنك العربي خلف السور، مدفون بكامله. مبنى وزارة المالية محاصر. الطريق إليه محصنٌ، مقفل بالكتل الخرسانية المعروفة.
ماذا في الساحة اليوم!؟ نعود إلى البداية. إلى ما يشبه حديقة السماح، بجانب كاتدرائية مار جرجس للموارنة، إلى حفرة جان نوفل، وهي هناك منذ ربع قرن تقريباً.
حفرة «جان نوفل» اليوم، هي حفرة حديقة. زنَّار، هيكله من الحديد، كانت ألواح خشبية قد ثُبّتتْ عليه، لتحمي المارّة القلائل، من السقوط في الحفرة. الحفرة، غير مكتملة، وهي بأعماق متفاوتة. فيها بعض الأحجار والبقايا الأثرية. تبدو اليوم بتدرُّجها، مع الطقس المشمس، وكأنها حديقة متدرّجة. تبدو الحفرة الحديقة، وسط الطيف الجنائزي الجاثم، وبين القبور المتراكمة، وفي قلب السماء التي سقطت والتي لم يلتقطها أحد، بعد. تبدو الحفرة، وكأنها رمزٌ لحياة ملوَّنة، مخضرَّة، قد تعود بعد عقودٍ إلى الساحة، وإلى الأمكنة التي تحوطها.

IV ــــ الخاتمة
في هذه القراءَة لساحة رياض الصلح،
وفي هذه الرؤية، عبر الحفرة الحديقة التي تجاورها،
الخاتمة الفُضلى، لهذا النص.
* معمار لبناني