«طبيعة صامتة» بل يجوز القول هنا طبيعة على قيد الحياة. لوحات غير مسالمة تستفز الذكاء البصري للرائي، وتحمله على المتعة البصرية والفكرية معاً. في art on 56th تخوض بيتينا خوري بدر، معرضها الفردي الثالث، ناقلة خلاصة تجربة محترفها إلى المتلقي. لوحات مركبة رباعية أو أحادية، فيها التجريد يجاور الواقعي، وخبرة صادقة ومتينة للريشة والبحث اللوني والبحث التأليفي.
هي نقلة نوعية في طبيعة مساحة التشكيل عند بيتينا. قلة بل نادرون هم الفنانون الذين يتحدون أنفسهم ويرفضون الراحة في ما يجيدون، ويبحثون عن أجوبة بصرية تقلقهم. غالباً ما يرتاح التشكيلي لعالمه الخاص، فيغرق في دوامة أو متاهة متكررة، ظناً منه أنه يبني هوية بصرية. في هذا المعرض بالذات، نرى العكس تماماً. بيتينا منغمسة في إيجاد أجوبة وحلول بصرية على أسئلتها التشكيلية الصرف، إلى جانب انهماكها بخوض مسألتها الفكرية الوجودية. هي تتحدى راحتها الشخصية كي تعطي للجمهور أفضل احتمالات التأليف البصري، متيحة للرائي أن يلعب معها اللعبة عينها، لكن بفرح كبير مع كل محاولة إعادة تركيب لتأليفاتها الرباعية. في معرضها الفردي الثالث هذا، تنقلنا مما يعتقده البعض سهولة التجريد، إلى مصافي التحكم باللون والريشة والضربة التجريدية، ثم لحساب التأليف والتلوين المتقنَين. هنا الرماديات مدروسة جداً، مع الأبيض والأسود ونقطة من لون في موقعه الممتاز تأليفياً. تضع أمام أعين المشاهد خبرة سنوات مع عجينة اللون في محترفها الشخصي. تشكل من جديد حكاية انتقال فعلي تصاعدي لما تراه عين التشكيلي.
لا يمكن للرائي أن ينسى معرض بيتينا السابق، حيث التجريد أخذ مداه الأقصى والاختبار اللوني التعبيري حَبا على سطح اللوحة صادحاً بالتساؤلات. لم تجد حينها أجوبتها البصرية، حملت التساؤلات معها إلى المحترف من جديد. وها هي اليوم بعد قرابة ستّ سنوات من معرضها السابق في «غاليري كروماتيك»، تطرح أمامنا كل خيارات الأجوبة التي اختبرتها تقنياً وبصرياً وتأليفياً من دون أن تقطع مع الماضي، إنما بتراكم ظاهر وربط ذكي بين جزئية التجريد التعبيري من جهة والخلطات اللونية المتينة، وعجينة تسمك أو تخف بحسب المعطى البصري على اختلاف الطبيعة الصامتة التي تختار: صحن مكسور، أو كرسي، أو أي شيء! تضعنا أمام خيارات وجودية ليس فقط فلسفياً وذاتياً وسيكولوجياً، وإنما أيضاً بصرياً.

التنوع مدهش وممتع ومحفز على التفكير والتركيب

أول الاحتمالات هي أربع لوحات متكاملة التركيب، قد يحلو للرائي التلاعب بها كـ puzzle وإعادة تركيبها لا شعورياً بدون ملل! في جزء من أربعة، تظهر «الطبيعة الصامتة» بريشة واقعية، يجاورها جزء تجريدي تعبيري تمتزج فيه الرماديات مع أبيض تحرص بيتينا عن قصد أو غير قصد على حضوره الفعّال وبعض ألوان مضيئة بكمية أقل موزعة بدقة عالية في التأليف، ثم جزء صامت يمتص ضجيج اللون المحيي للطبيعة الصامتة. وفي بعض الأحيان، تكتفي بيتينا بلوحة خام. تندهش العين أكثر، ترتاح. تستمتع بكل تفصيل ثم تستقر على الجزء الرابع، رسم عن صورة وعليها! نعم تدمج بيتينا في هذا الجزء صوراً مطبوعة (غالباً ما يستعملها بعض الفنانين كحيلة ويرسمون فوقها غشاً). اما بيتينا، فلا زيف في قاموسها البصري. هي تنقل الواقع كما هو. تقابل بين الأجزاء الأربعة دون ادعاء. تترك مجال الطباعة واضح المعالم بصدق مدهش، لا يجرؤ عليه فنانو اليوم من الشباب «الغشاشين»، حتى نخالها تقول: يمكنني أن اختار السهل لكنني اخترت الصعب، اخترت التحدي الأجدر بالبحث الفني الصادق.
ينتقل البصر بين القطع المركبة على حائط الصالة الأساسية لـ art on 56th، ونغوص أكثر في لعبة التركيب والتساؤلات الوجودية عن فحوى الطبيعة الصامتة المحيطة بنا، عن ماهية الحياة، عن الضجيج، عن الصمت، عن الثنائيات المتضادة التي تعطي بعضها المعنى... عن تركيبات أعقد من حدود الشكل الظاهر. ننتقل بين غرف الغاليري الثلاث المحيطة بالصالة الأساسية، كمن يتنقل بين ملاعب بصرية ثلاثة. الثيمة واحدة بعنوانها العريض، والتساؤلات المطروحة فكرياً واحدة، لكن بصرياً، التنوع مدهش وممتع ومحفز على التفكير والتركيب. نقرأ فنانة تحترم ذكاء الرائي، وتحترم أعمالها السابقة، ولا تتقيّد بالماضي. تتحدى ريشتها بريشتها، وينجحان معاً.
بيتينا الحائزة ماستر في الفنون البصرية من الجامعة اللبنانية (كلية الفنون والعمارة عام 2012) والمشاركة في معارض جماعية محلية ودولية، سجّلت آخر مشاركاتها في معرض الخريف قبل عامين. يومها، قدّمت عملاً متميزاً رباعي التأليف كنموذج طبيعة صامتة يذكّر بـ «الزهور»، واحد من أجمل سلسلة أعمال للفنان الفرنسي الكبير جيرار غاسيوروفسكي (1930-1986). العمل كناية أيضاً عن طبيعة صامتة من أواني الزهور رسمها الفنان عام 1979. هنا أيضاً تطغى الرماديات المُتقنة مع لمسة لون مضيء من أحمر أو أخضر يُجيد الفنان وضعه في المكان المناسب من التأليف، ما يذكرنا برشاقة الإضاءة في عمل بيتينا. وسلسلة «الزهور» هذه بغالبيتها إما ثنائيات أو رباعيات، بجزء منها تجريدي والثاني تعبيري، ثم الجزء الثالث صامت هادئ ثم الجزء الرابع مكمل للمضمون، وهو عند غاسيوروفسكي: الزهرة. هذه السلسلة شكلت مع سلسلة amalgames موقفه الفني من الفن التصويري عموماً، وتطور كما تدهور الفنون البصرية في عصره. أما عند بيتينا خوري بدر، فالحديث لا يعني حصراً الفن التشكيلي أو الفنون البصرية. في بيانها الفني المرافق لهذا المعرض، تخبرنا أن كل طبيعة صامتة لها معنى خاص. ثم تدعو المشاهدين إلى «استكشاف تأويلاتهم الخاصة، أو حتى تغيير التأليفات/ التركيبات في بعض الأحيان. هذه التوليفات جزء من سلسلة مستمرة تحاول أن توازي بين التجريد من جهة والتصوير/ الرسم الواقعي من جهة ثانية. يستكشفون هذه المحاولة لإيجاد المعنى في العالم، للوقوع، للفشل، ومن ثم النهوض مجدداً». مطلع البيان يشير إلى الخلاصة كاملة: «يؤكد أفلاطون أن الجمال المادي هو مجرد ظل، أو صورة عن الجمال الحقيقي للأشكال. تجميع هذه القطع يكشف حقيقة أخرى للشيء/ الموضوع. هو محاولة لرؤية التفاعل، بين اختباراتنا/ تجاربنا وعالم الظلال الذي نعيش فيه».

«طبيعة صامتة»: حتى 17 آذار ــ غاليري Art on 56th (الجميزة) ـــ للاستعلام: 01/570331