لم تعتمد الولايات المتحدةُ إسرائيلَ وكيلاً إقليمياً لها في الحوض العربي وجواره (منطقة غرب آسيا وشمال وقرن أفريقيا) إلا غداةَ تسنّم ليندون جونسون مقاليدَ الرّئاسة الأميركية، في ختام عام 1963، وبرتبة مرشّح فحسب. كان قد عيل صبر واشنطن، بل نفد، من مقاومة جعبد الناصر لمقاصدها في المنطقة، بل وأبعد، وبات احتمال استعمال العصا الغليظة الإسرائيلية لتقويضه في الأوراق، وإن ليس بتعجّل؛ ففي الضغط بالقمح ومؤامرات الاستخبار، فضلاً عن استنزاف الحرب في اليمن، كفايةٌ في المنظور حينها، أواسط الستينيات.لكنّ أزمةَ فحرب حزيران الـ67، والتي ما كان لإسرائيل أن تشنّها من دون رضىً أميركي، استحقّتا من واشنطن ترفيعَ إسرائيل من مرشّح وكيلٍ إلى وكيلٍ أصيلٍ يعوَّل عليه بامتياز، فحجم إنجازها وإبهاره في الميدان فاقا أي توقّع. صارت إسرائيلُ الركنَ الركين للإستراتيجية الأميركية في «الحوض»، وأحدَ أركانها في أفريقيا، ثم اعتُمد، للضرورة، بديلاً عن مفقود حين هوى بهلوي إيران في مكبّ التاريخ.

تربّعت إسرائيل في مقعدٍ وثيرٍ لوكيل محظيّ، ولكن أوراق اعتمادها قائمٌ مقامَ تامّ الأهلية، استلزمت تسوية الأرض بمهدّديها الرئيسيين في جواره، أو أقلّه، تدجينهم لحدّ الخصي.
مرّة واحدة، في القرن المنصرم، اهتزّ المقعد بجليسه؛ حين طوّح الجيشان المصري والسوري بالجيش الإسرائيلي أرضاً لأيام أربعة مجيدة: 6-9 أكتوبر 1973. ما كان في وسع واشنطن تقبّل هشاشة وكيلها وضعة صلاحيته، فصمّمت على إنقاذه من وهدته، بل وتمكينه من قلب الميزان في الاتّجاه المعاكس، مُعانةً بأخرقٍ هو أنور.
عاد الوكيل لمزاولة مهمّاته بعد «أكتوبر»، وتحت إبطيه صلحٌ منفرد مع مصر الأنورية، وفي خدمته حرب عراقية-إيرانية. ولأول مرة في تاريخ الصراع، طرحت واشنطن، في نيسان 1981، وبلسان وزير خارجيتها ألكسندر هيغ، للتداول مفهوماً مستجداً هو «الإجماع الإستراتيجي»، ابتغى ضمّ إسرائيل وعرب أميركا في حلف سياسي، عسكري، استخباري، واقتصادي، يشكّل الكتلة الحرجة في «الحوض» في وجه كلّ من «الخطرين» السوفييتي والإيراني. نجاحٌ لتلك المبادرة اقتضى التخلّص من عقبات سادّة هم الأسد وصدام والقذافي، ولكن أولهم المقاومة الفلسطينية في لبنان. وعليه، فقد ظنّت إسرائيل، مطلع حزيران 1982، أن الوقت قد أزف كي تتأبّط شراً، وفعلت، فاجتاحت لبنان طلباً لرأس تلك المقاومة ولإقامة حكم موالٍ لها فيه. نجحت في الأولى وأخفقت في الثانية، ولكن الفارق أنها حفّزت تخلّق مقاومة لبنانية، سرعان ما تنامت إلى أن أضحت جسماً عرطلاً بالقياس لسابقتها الفلسطينية.
لاحت في تلك الحرب إشارةُ توتّرٍ بين السيد والوكيل بخصوص مدى، بل ومآل، الحرب، أفرز إقالةً مدويةً لألكسندر هيغ لتواطئه مع إسرائيل في الأمرين وفقاً لهواها. لكن أهم ما عنته حرب لبنان عجزُ إسرائيل، بالمعنى الإستراتيجي، عن كسبها، لا بل وخسارتها عبر العقدين التاليين. ثم لم تكن حرب 2006 سوى استمراراً في فشلها في كسب الحروب. لم تغب تلك الملاحظة عن عين واشنطن، ولكن مكابرة الاصطبار وإعادة التمكين لبثت طاويةً في العقل الإستراتيجي الأميركي، وهو الذي سبق وحاول صدّ لظى الصواريخ العراقية المنصبّة عليه في حرب 1991، بفشل نسبي، ومنعه من الردّ لئلا يضطرّ المشاركون العرب فيها إلى الانفضاض عنها خشية أن يبدو شركاء لإسرائيل فيها.
ما بين 2008 و2023، بدت إسرائيل وكأنها قد امتلكت ناصيةَ ثقة السيد بها وكيلاً شبهَ منفردٍ في الإقليم


ما بين 2008 و2023، بدت إسرائيل وكأنها قد امتلكت ناصيةَ ثقة السيد بها وكيلاً شبهَ منفردٍ في الإقليم، وتبدّى ذلك في اتساقه، راغباً أم على مضض، مع بغاها في دفع القضية الفلسطينية إلى هامش الاهتمام العام، وتعطيل أي إمكانية لتسوية مقنعة قبل أن يسلّم الشعب الفلسطيني بالسردية الصهيونية لصراع قرن، وينزع عنه لبوس سرديته، راضياً بفتات كينونة مطيعة وحامية في نذرٍ يسير من فلسطين. رهاب إسرائيل من، ويقينها بـ، صفريّة مسألة الكيان (الفلسطيني نافٍ للإسرائيلي، إن قام) جعل شغلَها الشاغل إقناعُ واشنطن بأن أقصى المتاح هو حكمٌ ذاتي ملحق، وأن الاستيطان ضمانةُ تطويقٍ للملحق.
أتت مجاراة واشنطن لها من تفضيلها استسلاماً فلسطينياً يمكّنها من تشكيل «الحوض» على صورة «الإجماع» الذي لطالما تاقت إليه، وكذا من غياب مقاومة فاعلة على الأرض، وقد ناخت تحت كلكل أوسلو.
لكن ساعة الحقيقة دقّت، في 7 أكتوبر 2023، طنيناً داوياً في دهليز دماغ إسرائيل، طرحها أرضاً لساعات ست بطول دهر. وللمرة الثانية، تهرعُ واشنطن، ومعها الغرب الجماعي، لإقالتها من عثرتها؛ فالتسليم بهزيمتها المنكرة يشطب من ترسانة الغرب ترساً يريده منيعاً كي يقيه من انعتاقٍ ناهضٍ في الإسلامدار، العربي منه والإيراني، يُخرجه من إسار الهيمنة ويمنحه إهاباً ضاعَ منه لقرن؛ إهاب إمبراطورية.
بدأت، مذّاك، تتسرّب لديهم مخاوف نفاد رصيد إسرائيل التعويلي، بالتصاحب مع الخشية من انفلاته، بعد إيقافه على الأرض، ضارباً ضربَ عشواء ومتسبّباً في حرب إقليمية عالية الكلفة على الغرب ومصالحه.
أذنت له بشنّ الحرب على غزة، بغرض استئصال «قسّام- حماس»، ولكن ما ولغت فيه إسرائيل كانت حرب إبادة شاملة، ناموسها ثأرٌ توراتي ماحقٌ ظنّته السبيل إلى وأدٍ مؤبّدٍ للمقاومة في فلسطين، فما انتهت سوى بفشلٍ بليغ، أكان في تقويض كادر «القسّام» المقاتل أم في إسقاط سلطته السياسية، أم في استعادة أي من أسراها قتالاً.
صبرَ الغربُ الجماعي قرابة أشهر سبعة على إسرائيل كي تنجز مهمتها، وعبثاً، فبات يسأل نفسه: أبين مطرقة فضيحة 7 أكتوبر وسندان أشهر سبعة خائبة أي أمل ببعث وظيفية إسرائيل/ الوكيل من جديد، وما زال السؤال حائراً.
ما كان لإباديّة حرب إسرائيل على غزة من مُخرَج سوى ارتداد كيدها إلى نحرها، سواء في طول الغرب الجماعي وعرضه أم حتى في داخل إسرائيل ذاتها، وهي التي اكتوت لعام قبل الكارثة بشقاقٍ مجتمعي مأزوم. راحت جموعٌ متسعة من شباب الغرب ونخبه، حتى منها الثاوية في حشايا دولة الأمن القومي العتيدة، تصرخُ بكفى صادحة. صارت فلسطين قضيةً داخلية أميركية، كما غربية في عموم، ما أذهب عقول لوبيات إسرائيل وفتّ من عضدها وأحرج حماتها لحدّ الثمالة.
لم يكفها، والغرب الجماعي معها، ذلك كله؛ لتداهمها ليلة 13/14 نيسان مضيفةً للفضيحة والخيبة فقدانَ هيبة. فما بين 1 و14 نيسان تبدّد طقس الردع، غير المتناظر لمصلحة إسرائيل، بخروج إيران من بيات «صبرها الإستراتيجي» المديد. لم يردعها تحذير واشنطن لها من الإقدام على ضرب إسرائيل، وفشلت الأخيرة في توقّع مدى الضربة. أتتها من أرض إيران ذاتها، ودون قصد الذهاب إلى حرب واسعة، بل واستخدمت خلطة مقذوفات معظمها قديم، وكلّه ابتغاء توجيه رسالة تحذير من مغبّة أي تماد بعد، مع غرض مستبطنٍ من تحرٍّ لطرائق عمل الدفاع الجوي الإسرائيلي.
نحن الآن عند برزخٍ دالٍّ في استكناه مستقبلِ العلاقة بين الأصيل والوكيل: إن أذن له، ولو بعمل محدود ضد إيران، فردّها معقِّد وربما مقعِد. وإن سمح له بغزو رفح، فعبء ذلك السياسي والأخلاقي والقانوني يحتّ بالإزميل من سمعة الولايات المتحدة، ناهيك بنبذ إسرائيل عالمياً.
ثم تأتي إعادة التقييم: ما العمل، ونحن نحتاج في الإسلامدار وكيلاً يُعوّل عليه ولا نلقاه، لا سيما وانشغالاتنا في أوراسيا تجعل الحاجة إليه ماسّة؟ حاولنا إعادة الإحياء مرتين وأكثر، بغير جدوى، فهل تفيد ثالثة ورابعة، أم لا خيار سواها؟... لننتظر.

* كاتب عربي