إيتو برادة تنقّب في تاريخ المغرب

  • 0
  • ض
  • ض

بعد معرضها الفردي الأول في «صفير زملر» عام 2010، تحلّ الفنانة المعروفة مجدداً على بيروت من خلال «أدلة كاذبة». عبر الفيديو والفوتوغرافيا والتجهيز والتطريز والأحفوريات والنسج والنحت والدراسات الجيولوجية والصور الطوبوغرافية والهياكل العظمية، تسلك طريق التاريخ الطبيعي لبلادها، وتشرّعه على كل الاقتراحات المزورة والحقيقية!

جوهان بارتولوميوس بيرينجر (1667 ــ 1740) كان يمكن أن يكون نبياً آخر حين بلغه صوت من أعلى جبل آيبلشتات في ألمانيا. الأغلب أنه كان نداء الله كما تقول الأسطورة المرِحة المنقوشة على مجموعة أحفوريات عثر عليها عميد كلية الطب في «جامعة فوتسبورغ» حينها.

بان على هذه المتحجرات هياكل لسحالٍ وضفادع وعناكب. أما البرهان الأهم، فكان اسم الله الذي كتب باللغات العربية والعبرية واللاتينية على جزء منها.
أنجز بيرينجر كتاباً عن تجربته اعتبر فيه أن هذه الأحفوريات مصنوعة بإزميل الله نفسه، وأنها الدليل على وجوده. لكنه تراجع عن الكتاب حين عرف بأن هذا الله لم يكن سوى صنيعة أيدي زميليه في الجامعة، اللذين زرعا حجارتهما الكلسية في الجبل فور علمهما بزيارة برينجر له، للنيل من عجرفته. بعد نحو ثلاثة قرون على تلك الحادثة، يمكن أن نرى بيرينجر زائراً لأحد المزادات الباريسية، وهو يتفحص بإعجاب شديد هيكلاً عظمياً لنوع نادر من أقدم الديناصورات المغربية المنقرضة، كما جاء في وصف المتحف. لن يتبادر إلى بال الرجل، كما معظم الزائرين، شك ضئيل في أن هذه العظام هي مجرّد حجارة، وبأنها خدعة من المتحف من أجل الحصول على المال. قرأت إيتو برادة (1971) عن مزاد الديناصور المغربي في إحدى الصحف قبل أعوام، لتتأكد لاحقاً أنّه مزيف. كان ذلك دافعاً إلى العمل على شريطها Faux départ عام 2015، لتستكمله في معرض «أدلة كاذبة» الذي تحتضنه غاليري «صفير زملر» (الكرنتينا ــ بيروت) حتى 21 آب (أغسطس)، بعدما احتضنت معرضها الفردي الأول في بيروت «لعب» عام 2010.


إشكاليات الهوية في
ضوء الماضي الكولونيالي وإفرازاته الاقتصادية والثقافية

تعود الفنانة المغربية في «أدلة كاذبة» مجدداً إلى المغرب، لكن من طريق علوم الأحياء القديمة بعدما استثارت أعمالها الفوتوغرافية والتجهيزية ومنحوتاتها وشرائطها، في أعمال سابقة، إشكاليات المغرب المعاصر والهوية في ضوء الماضي الكولونيالي وإفرازاته الاقتصادية والثقافية. مجموعتها الفوتوغرافية السياسية «حياة مليئة بالثقوب» (1999 ــ 2003) تعد استعارة عن رحلات المهاجرين المغاربة إلى إسبانيا عبر مضيق جبل طارق أمام جوازات سفر مستحيلة، مستكشفة الحدود الثقافية والدولية والاستعمارية بعد اتفاقية «الشنغن» التي وقعتها بعض الدول الأوروبية أوائل التسعينيات. أما خريطتها الخشبية الثلاثية الأبعاد «صفائح تكتونية» (2010)، فترتكز على التحولات الجيولوجية لصفائح القارات لترسم أبعاداً سياسية وشاعرية جديدة. خلخلة الحدود الثابتة للأرض تمثلت في القارات المتحركة التي تمكن للزائر من التحكم بحركتها مخفياً جبل طارق عن الخريطة، ليتمكن الأفارقة من التنقل سيراً على الأقدام إلى أوروبا. في «أدلة كاذبة»، تظهر وجوه عدة لبرادة التي تستعير دور الراوي، ودور المنقب المحترف أو الهاوي المسكون بجمع الأغراض والأحفوريات والحجارة والألعاب على السواء. هكذا تسلك برادة طريق التاريخ الطبيعي لبلادها عبر وسائط فنية متعددة تراوح بين الفيديو والفوتوغرافيا والتجهيز والتطريز والأحفوريات والنسج والنحت والدراسات الجيولوجية والصور الطوبوغرافية والهياكل العظمية.
على غرار مجموعات المتاحف الكبيرة، تتوزّع أغراضها وقطعها الفنية وبعض تجهيزاتها السابقة على غرف الغاليري. تنطلق برادة من الأحفوريات المغربية التي تعد أبرز المراجع العالمية لتطوّر البشرية، أهمها هياكل الديناصورات، لتسائل فيها السوق الفنية وتسليع التاريخ وأصالة الأعمال الفنية والدور الذي تؤديه المتاحف. أمام غياب متحف رسمي لهذه الأحفوريات والهياكل في المغرب، تأخذنا إيتو برادة في شريطها القصير Faux départ (٢٣ د) إلى مجموعة من الحرفيين المغاربة الذي يقضون وقتهم بين جبال الأطلس والصحراء الكبرى. الشريط الحائز «جائزة أبراج الفنيّة» في «آرت دبي» العام الماضي، يعرض في إحدى صالات «صفير زملر» حالياً. بكاميرا 16 مم، تتعقّب برادة مراحل تصنيع الأحافير المزيفة والتقنيات والمعدات التي يستخدمها هؤلاء، قبل أن يبيعوها على أنها مكتشفات تاريخية حقيقية. بهذه الخفة التي يصنع بها أولئك الرجال أحافيرهم، بما تحتويه من معلومات ودلائل كاذبة، تدخل الفنانة المغربية إلى صلب السوق الفنية ومتطلباتها، لتصنع متحفها الخاص. تتركنا أمام مجموعة من الأحفوريات الكاذبة والأصلية لهياكل عقارب، يتخذ بعضها أشكال قلوب دهنت أطرافها باللون الأحمر.

«قلوب حجرية كاذبة» (مواد مختلفة ــ 9×10×15 سنتم ــ 2015)

وإذ تحدد لنا عبر دليل المعرض أيهما الكاذبة والأصلية، سيتبين أن بعضها مصنوع من شمع الأحذية والجص والغبار والمواد الصمغية لتصليح السيارات. كما تنفلش صفحات التاريخ أمام الإضافات المتعددة، يصبح التاريخ الطبيعي مفتوحاً على كل السرديات والاقتراحات المزورة والحقيقية حول التطور البشري للحيوانات والزواحف والديناصورات والطيور، ولكن حسب طلب السوق الفنية. إلى جانب هيكل ديناصور عظمي مصنوع من الجص، تستقبلنا في بداية المعرض ثلاثة ملصقات لمحلات أحجار وأحافير، كتب على واحدة منها «أحافير معدنية مختلفة». داخل متحف برادة الفانتازي، تتقاطع أغراضها مع أحجام التحف والأعمال الفنية المتفاوتة التي تتطلبها المتاحف. هكذا تصطف 6 زجاجات «كوكا كولا» مصنوعة من الأحفوريات المائية (Orthoceras) على إحدى الطاولات. وإذ تقارب برادة في هذه المجموعة تسليع الأعمال الفنية، تتهكم من الأحفوريات التزيينية المغربية التي تتنافس مواقع المتاحف التجارية على عرضها على الإنترنت. تتلاعب الفنانة بوعي المتفرج حين تدمج بين الخيال والواقع، وحين تظهر المعلومات التاريخية كسلع تجارية. نرى هذا بشكل أقرب، في إحدى زوايا المعرض التي تمزج بين التاريخ الحديث والقديم. هناك جداريات مطرزة مصنوعة من قماش ملوّن ومزخرف حديث من منازل البورجوازيين المغاربة. أعادت برادة تشكيل هذه القطع بما يشبه الأعلام، ليصبح كل منها شعاراً بصرياً لواحدة من قصائد الشاعر المغربي عبد الرحمن المجذوب من القرن السادس عشر. تحمل قصائد الشاعر الصوفي المغربي قيماً أخلاقية شعبية «نجري على المال ونطيح/ والمال بيت النفاخة/ رجل بلا مال كالريح/ مشرار وحب الشياخة». سؤال الأصالة حاضر أيضاً في السجادات اللافتة المعلقة على الجدار وتلك التي تفترش الأرض. من أين يستمد العمل الفني أصالته؟ سيكون هذا السؤال فرصة أمام برادة لزحزحة مفاهيم الأصالة عبر المزج بين عناصر ورؤى وتقنيات فنية متباعدة. السجادات التي صنعت بأيادي مجموعة من نساء بعض قبائل شمال أفريقيا من القماش والخيطان، خرجت نتيجتها البصرية أقرب إلى النتاج المجرّد لحركة de stijl الفنية الحديثة مع المربعات والخطوط والأشكال الهندسية الملونة والمينيمالية. مرجعيات «البوب» والحركات الفنية الحديثة في المعرض، لا تنفصل عن بعض الممارسات البدائية كما السلسلة الفوتوغرافية لبعض الألعاب والدمى الأفريقية القديمة، التي جمعتها البعثات التبشيرية خلال زياراتها لشمال أفريقيا. هكذا تُقرّ برادة باستحالة التقاط وجه الأصالة، في محاكاة للسوق الفنية والعلمية المعاصرة المحكومة بحسابات القوى السياسية والاقتصادية. لهذا السبب كان على برادة أن تقترح أحفورياتها الخاصة لتطور التجارة في سوق طنجة عبر التمديدات والقساطل وحنفيات المعدنية التي يستخدمها السباكون لجذب الزبائن على الطرقات.

«أدلة كاذبة»: حتى 26 آب (أغسطس) في غاليري «صفير ــــ زملر» (الكرنتينا ــ شمال بيروت). للاستعلام: 01/566550

0 تعليق

التعليقات