في كتابه «ما بعد ماركس»، يسائل فالح عبد الجبار المنظومة العامليّة بعد سقوط العملاق السوفياتي. الباحث العراقي يشرّح أسباب السقوط، ويقدّم قراءة لعلاقة الماركسيّين الإشكلالية بالدولة، والعولمة والنظام العالمي الجديد
ريتا فرج
«عالم ما بعد الماركسية»، عنوان يصلح لمشهد سينمائي، لشدة جاذبيته، ولكثرة ما يحويه من صور مثيرة للخيال. أو لعلّه عبارة عن انفصال للتاريخ، تجلّى لحظة سقوط الإمبراطورية السوفياتية، على وقع استراتيجية رقعة الشطرنج الأميركية، وبلورة النظام العالمي الجديد. وهذا الأمر أفضى إلى اتساع العولمة في ظل عودة المعطى الديني، وتفاقم الأصوليات، والحديث عن أفول الدولة.
في كتابه «ما بعد ماركس» (دار الفارابي)، يغوص عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبّار في راهن الماركسية (وما بعدها)، في السياسة، والاقتصاد، والدولة القومية، والعولمة. يقدم صاحب «العمامة والأفندي» قراءة للنظرية الماركسية عن الدولة. هذه الأخيرة تمثّل بالنسبة إلى مؤلف «رأس المال» أداة الطبقة السائدة للحفاظ على امتيازاتها. والدولة عند الماركسيين ـــــ في مقدمهم لينين ـــــ تمثّل دوماً مصالح طبقة محددة، ومن هذا المنطلق يندرج العداء الشيوعي الراديكالي للدولة.
لم يضع كارل ماركس رؤية متكاملة عن الدولة ووظائفها، ما أنتج «فراغات» معرفية، كما يشير الكاتب. أسباب هذا الفراغ، مردُّه إلى إيمان ماركس بقرب الثورة العالمية، بعدما تأثر «بمفكّري عصر الأنوار، الذين افترضوا زوال الدولة القومية» على مرمى اجتياح العقلانية والليبرالية. لبرهة، يشعر قارئ «ما بعد ماركس» بثقل البانوراما التاريخية التي أدت إلى سقوط العملاق السوفياتي، وبأنّ ماركس بات بصمة لزمن آخر. أما الزمن الحاضر، فهو عصر الرأسمالية المتوحشة كما يصفها بيار بورديو. لكن «تجربة الانهيار المدوّي والمفجع» تتخطى صراع الأفكار. هنا، يفنّد عبد الجبّار العوامل الداخلية التي أدّت إلى تفكك المنظومة الشيوعية، بدءاً بالمعطيات البنيوية التي لم تكن جاهزة آنذاك لتقبل «التطور ما بعد الرأسمالي»، وصولاً إلى تحول الثورة إلى أوتوقراطية مطلقة، بعدما فعلت رأسمالية البرجوازية فعلها كما كان يهجس لينين.
العولمة برهاناً على فرضية ماركس عن «قاعدة التطور»
تحت عنوان «العالم والعولمة» يتطرق الكاتب إلى المشهد العالمي بعد ماركس. عالم يهيمن عليه انتصار الليبرالية القائمة على اقتصاد السوق، وغياب رقابة الدولة عن الاقتصاد، واتساع الخصخصة. غير أن اليسار الراديكالي يرفض التسليم بالهزيمة، مشيراً إلى أنّ العولمة جاءت لتبرهن على فرضية ماركس عن «قاعدة التطور» المتمثلة «في النظام الرأسمالي العالمي». الحديث عن زوال الدولة القومية تحت وطأة الشركات المتعددة الجنسية، فسّره ورثة لينين بالتأسيس للأممية عبر الثورة العمالية. لكن أين نحن من الثورة العمالية؟ وهل الاقتصاد العالمي الراهن يُنذر ببداية تداعي الدولة التي كرهها ماركس؟
رغم توجّه الاقتصاد نحو السوق الحرة، فإنّ الحركات المناهضة للعولمة وانتشار النزاعات الدينية والقومية والاثنية، لن تشفي غليل المنظّرين لزوال الدولة على الجبهتين الماركسية والنيوليبرالية. وإلّا فما معنى استحضار رأسمالية الدولة في حقبة الأزمات المالية العابرة للأديان والقوميات والقارات؟ شهدنا ذروة ذلك إثر معضلة الرهن العقاري في الولايات المتحدة... يطرح عبد الجبّار فرضية مفادها أنّ زوال الدولة وسيطرة السوق المعولم، سيزكّيان الصدام بين القوى التي ستتحكم في العالم. فالرأسمالية الجديدة تتجه نحو مزيد من التوسع، لكنها تعيش أزمتها البنيوية، وتجابه بمدّ من الرفض الإثني والعرقي والأصولي.
المعطى الأساسي لـ«عالم ما بعد الماركسية» يتمثّل في بروز السجال بشأن أنواع الأنظمة الديموقراطية، بعدما كان التنميط السياسي قبل التسعينيات، يركّز على الاختلاف بين الأنظمة العسكرية والشمولية. مع عصر العولمة، يبدو العالم أكثر صغراً، لكنه أكثر قلقاً، فصحيح أنّ النيوليبرالية أنتجت وحدة الاقتصاد العالمي، لكنها لم تمنع إثارة الهويات.
لم تكن تداعيات نهاية الحرب الباردة أقل شأناً من الحرب العالمية الثانية، التي رسمت حينها خارطة القوى العالمية. لكنّ الأولى أدت إلى بروز تحولات أساسية: عودة المعطى الديني، والقومي، والإثني، وتفاقم الأصوليات، وتوسّع اقتصاد السوق على حساب رأسمالية الدولة... والأهمّ من كل ذلك اتساع الشرخ بين عالم الشمال وعالم الجنوب، ولعل طروحات سمير أمين عن التحوّل الأخير تجيب عن ذلك.