يحيى دبوق المشهد السياسي والأمني الراهن في لبنان، شبيه، في الظاهر، بمشهد ما قبل حرب عام 2006، مع قليل في الاختلاف، على أهميّته القصوى. الجهات نفسها والأهداف ذاتها، مع ترتيب مختلف للأسلحة المستخدمة.
في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، مروراً بانسحاب الجيش السوري من لبنان، وقبل اتضاح فشل الخيارات السياسية حيال المقاومة والتي هدفت إلى تحويل لبنان تابعاً نهائياً وكاملاً للمحور الأميركي، عاش محور واشنطن وتل أبيب والجهات التابعة له محلياً وإقليمياً، نشوة الانتصار المرتقب. ورغم الزخم الذي ميّز هذا المحور في تلك الفترة، إلا أن ممانعة الطرف الآخر، أجهضت الوسائل السياسية و«حيلة» تحييد حزب الله واستفراد سوريا، كي يعاد في مرحلة لاحقة لاستفراد حزب الله نفسه، وبالتالي إنهاء الجهتين تباعاً. أدركت سوريا وحزب الله وحلفاؤهما المخطط، وجرى بناء الاستراتيجية الدفاعية على هذه الرؤية، ما أحبط المخططات السياسية المرسومة في حينه لمحاصرة محور المقاومة، وإنهائه أيضاً.
رغم ذلك، وقبل الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، لم تكن واشنطن وتل أبيب وقوى محلية وإقليمية، قد وصلت إلى حدود اليأس من إمكان إنهاء ظاهرة المقاومة وإلحاق لبنان بالكامل بالمحور الأميركي، فتلمّس فشل الخيارات السياسية كان يعني في حينه استعجالاً للخيار الآخر والبديل، أي استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية لاجتثاث حزب الله دفعة واحدة، ونهائيّاً.
انكسار الخيار العسكري واكتشاف حدود قدرة إسرائيل على تغيير الواقع، أعادا ترتيب الخيارات ومسمّياتها، بناءً على قدرتها. لم يعد خيار الحرب خياراً أخيراً يجري استخدامه في حال فشل الخيارات الأخرى غير العسكرية. باتت الأمور مختلفة، فتوقع وتقدير فشل الخيار العسكري في عام 2010، وربما قبل هذا التاريخ، جعل من الخيارات الأخرى خيارات ضرورة وأقل فعالية، وأيضاً لا مناص من تفعيلها والتمسك بها، مهما كانت نتائجها. وعلى هذه الخلفية يمكن تفسير إصرار واشنطن وتل أبيب، والقوى التابعة لهما، على اللحاق وراء كل خيار ممكن ضد حزب الله.
مشكلة الخيارات السياسية والفتنوية المتوافرة حالياً، أنها أتت بعد استنفاد الخيار العسكري الإسرائيلي، وبعد تنامي القدرات العسكرية لحزب الله، التي وصلت إلى حدود غير مسبوقة لجهة النوع والكمّ والقوة التدميرية القادرة على صد العدو إذا ما قرر شن حربه على لبنان، بمعنى أن صانع القرار في حزب الله لا يشعر أنه في حال التمكن من إسقاط أو احتواء المخططات التي تستهدفه، سينتظره خيار أسوأ لا يملك وسائل مواجهته، وهي الحرب. وأهمية هذه الرؤية أنها تمنح حزب الله مروحة واسعة من الخيارات والأساليب، التي لا يتوانى عن اللجوء إليها لإسقاط أي مخطط يستهدف صورة المقاومة وشهداءها وقادتها، مع كل ما ينطوي على ذلك من أبعاد وتداعيات.
مقارنة المشهد السياسي والأمني الراهن في لبنان، بما كان عليه قبل حرب عام 2006، بوجوه معينة، توصيف صحيح. نفس الأطراف ونفس الأعداء، ونفس الأهداف، بل ربما نفس الخيارات، لكن على ترتيب مختلف لجهة فعالية الخيارات. ما يختلف أن الاعتقاد السائد في حينه، أي قبل الحرب، ولدى محور واشنطن تل أبيب وتوابعهما، أن بمقدور إسرائيل اجتثاث المقاومة عسكرياً. أما حالياً، فالاعتقاد السائد، وربما الإدراك السائد، أن خيار الحرب متعذر، وفي حال تفعيله سيكون كارثياً على إسرائيل، تماماً كما سيكون كارثياً على الجهات التي ستدفع إليه وستغطيه. وآخر إقرار إسرائيلي صدر قبل أيام عن رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية، عاموس يدلين، وعن رئيس مجلس الأمن القومي السابق في الدولة العبرية، عوزي ديان، وإن كان الأخير قد رفض خضوع الجيش الإسرائيلي لمنطق الربح والخسارة، وعدد الإصابات في الحرب المقبلة.
فهم هذه المحددات ودورها وفاعليتها، قد يمكّن من فهم إمكانات الأطراف ومسارات الأمور ومآلاتها. وحدود قدرة الطرف الأميركي ـــــ الإسرائيلي على تغيير الواقع بالقوة، وإن لاحقاً، يفسر الضياع والارتباك في تحديد الأهداف وتغييرها باستمرار ضد محور المقاومة. من يدرك أن لا خيار عسكرياً ضد حزب الله، يدرك كيف لواشنطن وحلفائها أن تتمسك بالخيارات الأخرى لمواجهته ولا تستعجل الحرب، وقد يدرك كيف لحامل سلاح المحكمة والقرار الاتهامي، أن يتموضع في الزاوية الدفاعية، بينما الجهة التي يجري تسليط السلاح عليها متوثّبة وفي تموضع هجومي.