ليس من باب المصادفة أن يجدد المخرج حاتم علي (1962 ــ 2020) جواز سفره السوري قبل رحيله ببضعة أيّام، ويكون حريصاً وقلقاً كعادته من أن يضيع من الشخص الذي أرسله معه إلى دمشق. كأنّه كان يتحضّر للمشوار المهيب إلى مدينته الأثيرة بعد انقطاع دام عشر سنوات! لكنّه لم يكن يعرف أنّ تذكرة الطائرة هذه المرّة ستكون ذهاباً من دون عودة، ولمرة واحدة وأخيرة. هي المرّة الوحيدة التي لن يحسب لها حساب الطيران، ولن يبحث فيها عن دواء يخلّصه من فوبيا الطائرة، التي لازمته طوال حياته، رغم أنه أمضى وقتاً يسيراً من عمره القصير على متنها. لم يحتج حبّة منوّم هذه المرّة، ولم يشّد على رجل من يجانبه من فرط التوتر عند الإقلاع أو الهبوط. نام بعمق شديد وسكينة، ولعلّ الابتسامة لم تفارق وجهه، وهو يتجه لملاقاة البلاد التي سكنته وغاب عنها من دون قصد سنيناً طوال! حطّت الطائرة ولم ينزل مسرعاً كعادته. ربما انتبه لأنّ الجلبة التي تدور خارجاً ليست عابرة. ما خطب كلّ تلك الجموع التي تتجمهر عند باب المراسم؟ هل عرف الأصدقاء بموعد رحلته، فواكبوه إلى المطار؟ ولماذا سيخرج من باب المراسم وصفّ سيارات طويل ينتظره؟ هل انتبهت سوريا أخيراً لضرورة تكريم مبدعيها، أم أنّه مجرّد تزامن عودته مع ليلة رأس السنة، وهو ما جعل تلك الطقوس تتحضّر على عجل؟ سيطول الانتظار قبل أن يهبط مخرج «أحلام كبيرة» (كتابة أمل حنّا) من باب غير ذاك المخصص للركّاب، وقد تمدّد في صندوق خشبي. عندها فقط ستعرف الجموع التي هرعت لاستقباله أنّه مات! مات حاتم علي كلّه. مثلما قال «الزير سالم» (كتابة ممدوح عدوان) عندما أخبروه برحيل كليب. لكن كيف مات؟ كيف تحضّر الموت لملاقاته. لعلّه أخذ قسطاً يسيراً من الراحة. شرب كأسه حتى آخره. وفي الطريق رمى عدة دهائه في العراء. وعندما وصل، علّق في مكان مُعتم ميدالية مفاتيحه الثقيلة. كان قد أجّل سلسلة مواعيده الطويلة، وتباهى في أحاديث الأمس أمام رفاقه بقوّته التي تسحل الطب، وتدوّخ العِلم. كان يأمل أن يكون ساطعاً بمنتهى الوضوح، قوياً بحجم فجيعة. لكنّه حقيقة دائماً ما يأتي خاوياً كملمس النعش، بارداً كثلّاجة يوضع فيها من يزوره...رغم أنّه كان قد تعطّر، ولبس الأناقة مثل ثوب، حضر بضعة مشاهد وقرأ الكثير من المقالات. عرف أنّه سيلاقي ندّاً قويّاً. لكنه فجأة وجد نفسه ينهار عند بوابة إقامة خصمه المؤقتة. لذا، استعار كل خبثه، وجلس ينتظره على العتبة حتى نام. وبلحظة واحدة انقضّ عليه مثل قبيلة ذئاب هجينة، حتى ولو انتصرت لا تعرف كيف تواجه فريستها وجهاً لوجه! إنّه الموت إذاً، وهو يستعد ليلاقي حاتم علي. يومه لم يكن كباقي أيامه، فقد قبض على رجل التفّت البلاد حول نعشه، كما لم تفعل منذ عقد من القهر!
حالما يخرج الجسد المسجّى في صندوق بُنّي، يرتفع صوت العويل. العيون المذهولة ستحوّط سيارة الإسعاف. ازدحام الموت لم يمنع الدمع الوفير هذه المرّة.
سلاف فواخرجي، شكران مرتجى، قمر خلف، خالد القيش، وائل رمضان، مهيار خضور، المثنى صبح، فادي صبيح، محسن غازي، فاتح سلمان، سمير حسين، وصهره سامي الجنادي.. الكلّ محاصر بالصدمة ولا أحد يقوى على الكلام. بينما يجلس أخوه زياد داخل السيارة يسأل إن كان أخوه حقاً بات جسداً من غير روح؟! صوت واحد سيخترق العويل وهو يردد: «لن يكون هناك أستاذ من بعدك». إنّه صوت المخرج علي علي، رفيق دربه وشريك معظم أعماله. ما هو سر العلاقة بين الرجلين؟ ما عليك سوى أن تعرف أنّ علي سمى ابنه حاتم لتفهم عمق علاقته بالراحل. يمرّ الوقت بطيئاً لتنتهي الإجراءات الورقية وينطلق الموكب. كلّ شيء يسير بسهولة. الحواجز الأمنية، والموظفون الرسميون، وكلّ من له علاقة بالتعاطي مع المشيّعين، سيبتسم بهدوء وينطق بجمل العزاء قبل أن يترك فرصة إكمال درب الحزن. وحدة الطريق من المطار كان ثقيلاً بالعتمة، ملفوفاً بالخيبة، ومعدّاً لإتمام شكل الفجيعة. سيمرّ الموكب من ساحة الأمويين بصمت. ترى كم كان يشتاق الرجل إلى هذه الساحة التي قضى بالقرب منها، في «المعهد العالي للفنون المسرحية»، سنواته التأسيسية في الدراسة الأكاديمية. «مستشفى الشامي» صار قريباً. سيحمل النعش إلى أن تصل أخته. جملة واحدة قالتها كانت كفيلة بانهيار غالبية الواقفين. بصوت مرتجف ردّدت: «أنا فقط من يعرف كم كان قلبك يذوب لتنزل إلى الشام، يا حسرتي على هذه النزلة. قُم يا حاتم أنت في الشام!».
مضت الليلة في ثلّاجة المستشفى، قبل أن يعود المحبون في صباح اليوم التالي، ليحملوه مشياً على الأقدام إلى «مسجد الحسن» في حي أبو رمّانة. السوشال ميديا لا تزال مشتعلة، بينما سيمرّ مرة ثانية من ساحة الأمويين، قبل أن يهبط في الجامع. هناك، ستحدث سابقة بأن يقف إمام المسجد ليُثني على فنان، كما لا تفعل هذه المنابر عادةً. ليس ذلك فحسب، بل سيعدّد بعض أعماله. فالرجل كان توافقياً مع الجمهور. حرص ألا يزعج الرقيب المجتمعي، إنما كان يبحث عن ترف المتعة والدهشة اللتين أهداهما عمراً كاملاً للمشاهد. ستنتهي مراسم الصلاة، وبمجرّد أن يخرج النعش، سيقابله آلاف المشيّعين بالتصفيق، كأنّه ارتفع على منصّة تكريم. وستعلو أصوات المكبّرات بأغنيات شاراته الخالدة. ما عاذ الله أن أقول لك وداعاً، وصامت لو تكلّم.
فادي صبيح وتيم حسن خلال التشييع
«الله معك يا حاتم»، تصرخ إحدى السيدات فتغرق الوجوه المكمّمة بالدموع، قبل أن تتحوّل الجنازة إلى عراضة شامية يُرفع فيها النعش فوق الأكتاف بمشهد مهيب لا يمكن مجاراته... تيم حسن بين المشيعين، ومنى واصف، وسلافة معمار، وأمل عرفة، وكاريس بشار، وسليم صبري، وناظلي الرواس، وغسان مسعود المتعب من شدّة الحزن كما كلّ رفاقه. دقائق سيقطع النعش شوارع الشام في آخر مشوار له، ليستقر في مقبرة «باب الصغير» في حيّ الشاغور. هذه المفارقة الموحشة كان قد التقطها روّاد الفيسبوك، عندما نشروا له فيلماً قصيراً من إخراج رامي حنّا يلعب فيه دور مهندس مغترب يقرّر العودة إلى دمشق، ويموت بعد وصوله بساعات، فيركّز الشريط على الوقائع التي يعايشها الميّت كأنه على قيد الحياة. كان المهندس يسرد رحلته التي توقفت في مقبرة باب الصغير من دون أن يتمكّن من إكمالها!
في الأيام التالية، ستتسابق الجموع إلى صالة العزاء. كل ما يجري كان يشي بأنّ البلاد لم تصب بمقتل بعد، بل لا تزال قادرة على تبجيل من يستحق الإجلال، رغم بعض أصوات النشاز المقيتة، وتخاذل وزارة الإعلام ونقابة الفنانين عن مواكبة الحدث كما يستحق. إلا أن الجمهور قال كلمته باختصار: المبدع لا يموت! فقط يأخذ قلوب محبيه، ويمضي، فتكرّسه رحلة الأبدية تلك في وجدانهم أكثر!