الخلاصة العامّة التي تحمل في طياتها بقية الخلاصات، هي أن المسار التاريخي للاجتماع اللبناني السياسي والاقتصادي كان محكوماً على الدوام بكون لبنان جزءاً من المشرق العربي له أهمية خاصة كمنصّة لإحكام الغرب الاستعماري سيطرته السياسية والاقتصادية على الداخل. ففي هذا السياق قام هذا الاجتماع على ركيزتين أساسيّتين هما الطائفية السياسية والاقتصاد غير المنتج. وقد ارتبط نشوء هاتين الركيزتين بداية بالدور الوظيفي الذي لعبه لبنان (جبل لبنان وبيروت تحديداً) كمنصّة يتغلغل منها نفوذ الغرب السياسي والاقتصادي في القرن التاسع عشر لبسط نفوذه على المشرق العربي، مستفيداً من موقع لبنان الجغرافي والعلاقات التاريخية لبعض طوائفه مع البلدان الأوروبية، ومن النزاعات التي كانت قائمة بين الموارنة والدروز في جبل لبنان. وجاء الانتداب الفرنسي ليكرّس الدور الوظيفي للبنان الكبير، بالتلازم مع الطائفية السياسية واقتصاد الوساطة كركيزتين للاجتماع اللبناني في الإطار الجغرافي الجديد. وبقيت دولة لبنان الكبير في ظل الانتداب عبارة عن تجمع مناطق وطوائف متفاوته كثيراً لناحية تطورها الاقتصادي والاجتماعي ومختلفة على هويتها الوطنية وتمارس فيها النخب المسيحية، ضمن الحدود التي رسمتها سلطة الانتداب، هيمنة على المجالين السياسي والاقتصادي. وهذه النخب التي نشأت وترعرعت في ظل النفوذ الفرنسي، هي ذاتها التي أمسكت فعلياً بزمام الشؤون السياسية والاقتصادية في جمهورية الاستقلال الأولى التي كان لبريطانيا اليد الطولى في عبور لبنان إليها. وبذلك أُعيد إنتاج الركيزتين الأساسيتين اللتين قام عليهما الاجتماع اللبناني في المرحلة السابقة. ومعهما أُعيد إنتاج التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية الطائفية والطبقية والجغرافية. وتلازم كل ذلك مع تجدّد وتوسّع دور لبنان الوظيفي الإقليمي بفعل المتغيّرات السياسية والاقتصادية الدولية والإقليمية المستجدّة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي جعلت هذا البلد يلعب دوراً محورياً في سعي الغرب، بزعامة الولايات المتحدة، إلى إحكام قبضته السياسية والاقتصادية على المشرق العربي بعد حصول دوله على الاستقلال السياسي.في أواخر الستينيات، وعلى خلفية التناقضات التي أخذت تعتمل في مجتمع الجمهورية الأولى، أخذ لبنان يتحوّل من طرف منفعل بمجريات الصراع بين المعسكر الغربي وحليفته إسرائيل من جهة وحركة التحرر الوطني العربية من جهة ثانية، إلى طرف فاعل في هذا الصراع. فوجود المقاومة الفلسطينية وحليفتها الحركة الوطنية ثم المقاومة الإسلامية على أراضيه، جعله مركز ثقل حركة التحرّر الوطني في المنطقة. هذا بالإضافة إلى زوال الدور الوظيفي الاقتصادي الإقليمي، سيدخل النظام الذي تكرّس بعد الاستقلال، في أزمة متعدّدة الأشكال والأطوار، امتدّت إلى وقتنا الحاضر. ففي عام 1975 تدحرجت الأزمة إلى حرب أهلية مدمرة ارتسمت خلالها معالم التغيير السياسي والاقتصادي التي ستتكرّس في الجمهورية الثانية وأهمها، فقدان لبنان دوره الوظيفي الإقليمي خاصّة على الصعيد الاقتصادي. ومع هذا، أُعيد في الجمهورية الجديدة، إنتاج الطائفية السياسية والاقتصاد الريعي على نحو معزّز هذه المرّة. فالنظام السياسي بعدما كان في الجمهورية الأولى عبارة عن هيكل هرمي على قمته رئيس ماروني يتمتع بصلاحيات واسعة جداً، أصبح برؤوس طائفية متعدّدة زاوجت عموماً بين صفتَي أمراء حرب ورجال أعمال، وتحاصصت المواقع في مؤسّسات الدولة السياسية والإدارية. أما على الصعيد الاقتصادي وبعدما فقد لبنان دوره الوظيفي الإقليمي، وبعد فشل محاولة رفيق الحريري إحياء هذا الدور على شكل دبي أخرى، أخذ الاقتصاد يتوغل في ريعيته. فبعدما كان يعتمد على إنتاج الخدمات لحساب الخارج، صار يعتمد على التدفقات المالية الآتية من الخارج وتوظيفها في نشاطات لا تتصل بقطاعي الإنتاج الحقيقي المحليين، الزراعة والصناعة. ما أدّى إلى تراجع كبير لهذين القطاعين وإلى أن تعود الحصة الوازنة من الدخل الوطني للريوع المتأتية من ارتفاع الفوائد المصرفية والاحتكارات التجارية والمضاربات العقارية والسياحة وتحويلات المغتربين لأسرهم. وما كان لنظام الجمهورية الثانية أن يعيش فترة من الاستقرار النسبي لولا هذه التدفقات المالية الخارجية واضطلاع سوريا بتفويض أميركي سعودي بدور الوصي على تنفيذ اتّفاق الطائف، وتولّيها بشكل مباشر الإمساك بالوضع الأمني وتحديد الوجهة العامة في ما يتعلق بالشأن السياسي بالإضافة إلى ضبط التناقضات/ النزاعات التي بقيت كامنة بين أركان النظام الجديد.
المنظومة المتعدّدة الألوان الطائفية التي أمسكت بزمام السلطتين السياسية والاقتصادية في الجمهورية الثانية لم يكن من مصلحة طبقية تلتف حولها سوى الدفاع عن الطابع الطائفي للنظام السياسي والحلّة الجديدة للاقتصاد الريعي


إن التلازم التاريخي بين الطائفية السياسية والاقتصاد الريعي غير المنتج، بالأبعاد والمضامين التي أخذها في حيّز الواقع، جعل الانقسامات العامودية، بخاصة الطائفية، تطغى في البنية المجتمعية اللبنانية على الانقسامات الأفقية، بخاصة الطبقية منها. ذلك أن تراكم رأس المال الذي رافق النمو الاقتصادي لم يتحقق بشكل رئيسي في دائرة الإنتاج الحقيقي المادي المحلّي وإنما أساساً في دائرة نشاطات روابطها ضعيفة مع هذا الأخير. ولم تكن هذه النشاطات من طبيعة تعمل على فرز طبقي واضح على المستوى الوطني. كما أنها لم تعمل على خلق روابط تكاملية وطنية، لا بين مختلف مكونات المجتمع، ولا بين مختلف أجزاء المجال الجغرافي. فالبورجوازية التي أمسكت بزمام السلطتين السياسية والاقتصادية في الجمهورية الأولى بقيت منذ نشوئها حريصة على طابعها الفئوي الطائفي، وتعتبر أن استمرار الهرمية الطائفية للنظام السياسي، بالتلازم مع اقتصاد الوساطة تحت مظلة الغرب ولصالحه، هو الضمانة لاستمرار الوجود المسيحي. أمّا المنظومة المتعدّدة الألوان الطائفية التي أمسكت بزمام السلطتين السياسية والاقتصادية في الجمهورية الثانية، لم يكن من مصلحة طبقية تلتف حولها سوى الدفاع عن الطابع الطائفي للنظام السياسي والحلة الجديدة للاقتصاد الريعي. وعلى خلاف منظومة الجمهورية الأولى، بقيت على اختلاف جذري فيما بينها على صعيد تحالفاتها الخارجية. ومن أجل الحصول على أكبر حصة من الريوع وتحسين مواقعها داخل طوائفها وفي السلطة السياسة، بقيت على أتم الاستعداد لخوض الصراعات الدامية وحتى الحروب في ما بينها. وذهبت بعيداً بالتطييف إلى حدّ اقتربت عنده الطوائف من أن تصبح عبارة عن كيانات اقتصادية واجتماعية قائمة بذاتها. وجرى ذلك كلّه بعيداً من التقيّد بأبسط القواعد التي تحكم عادة تداول السلطة وتوزيع الدخل والثروة في نظام رأسمالي مهما كانت مرحلة نضوجه. ولذلك لم تتوفر للمنظومة الحاكمة في الجمهورية الثانية، خصائص تجعلها فعلاً طبقة برجوازية تمسك بزمام السلطتين السياسية والاقتصادية بصفتها هذه. فسلوكها الفعلي جعلها أقرب إلى أن تكون منظومة مافيوية غنائمية. وعليه يمكن القول بشكل عام إن التناقض الرئيسي داخل الاجتماع اللبناني بقي طابعه سياسياً وليس اقتصادياً. لذا يصعب الأخذ بمقولة إن الطائفية في لبنان هي مجرد لعبة سياسية تستخدمها البرجوازية لإعادة إنتاج نفسها.
هكذا بقي لبنان الكبير، منذ نشوئه، عبارة عن كيان اختلفت مكوناته الطائفية في تطورها الاقتصادي والاجتماعي. وفي الوقت نفسه اختلفت في ما بينها على الهوية الوطنية وعلى العلاقات مع الخارج. ما جعل هذه المكونات في نهاية المطاف تتمايز لجهة الموقع في البنيتين السياسية والاقتصادية لهذا الكيان. وإذا أضفنا عامل الهجرة وضمور العمل بأجر، كانت النتيجة بنية مجتمعية بغاية الهشاشة في حالة انقسام دائم عاجزة عن توليد دينامية وطنية ذاتية دافعة للتغيير النوعي. وهذا بدوره، ما جعل الوجهة التي يأخذها التطوّر السياسي والاقتصادي في لبنان، لا سيما عند المنعطفات الرئيسية التي مرّ بها مساره (قيام المتصرفية، قيام لبنان الكبير، الحصول على الاستقلال، مجيء الشهابية، اتفاق الطائف، اتفاق الدوحة)، لا تأتي بشكل رئيسي كمحصّلة للموازين بين القوى الاجتماعية المحلية، وإنما نتيجة للمتغيرات التي تشهدها علاقات المنطقة العربية بالمراكز الرأسمالية الغربية، والمرتبطة بدورها بالمتغيرات على صعيدي العلاقات بين الدول الكبرى والعلاقات بين دول الإقليم. هذه الأرجحية للعوامل الخارجية على العوامل الداخلية في حركية الاجتماع اللبناني السياسي والاقتصادي، والتي لا تبدو متّسقة مع ما هو معروف عن حركية المجتمعات العادية، لا يمكن فهمها خارج كون لبنان جزءاً لا يتجزأ من المشرق العربي، وأن الخارج بما فيه هذا المشرق نفسه، كان دائماً يعتبره كذلك.
إن ارتباط المتغيرات في لبنان بالمتغيرات الدولية والإقليمية، جعل، في الوقت نفسه، تاريخ هذا البلد عبارة عن سلسلة من الأزمات المتفاوتة في حدّتها ومداها الزمني، تأخذ الصراعات فيها، في آخر المطاف، طابعاً طائفياً يحمل معه خلافاً عميقاً حول هوية لبنان والانتماء الوطني. ويلاحظ المتتبّع لمسار الأزمات التي مرّ بها لبنان بعد الاستقلال (الحرب الأهلية الخاطفة في عام 1958، الحرب الأهلية الكبرى، الأزمات المتتالية بعد عام 2005) أنها كانت تأتي دائماً كارتدادات/ انعكاسات لمجريات الصراع بين حركات التحرّر الوطني في المنطقة من جهة، وإسرائيل والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائه، من جهة ثانية. كما يلاحظ أنها كانت تأخذ باستمرار شكل صراع بين مراكز القوى الطائفية اللبنانية على الموقع في السلطة السياسية وداخل طوائفها، وفي الوقت نفسه صراعاً على موقع لبنان في الاصطفافات الدولية والإقليمية. أما فترات الاستقرار النسبي التي كانت تفصل بين أزمة وأخرى وتتفاوت في مداها الزمني، فكانت تأتي نتيجة لدخول الأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة في مرحلة من التسويات التي تشمل، مع ما تشمل، الوضع اللبناني. لكن من دون أن تمسّ هذه التسويات جوهر نظامه السياسي الطائفي ونموذج الاقتصاد المركانتيلي الريعي. ولذلك كانت الأزمات تعود لتطل برأسها عند انفراط عقد التسويات / التفاهمات الدولية الإقليمية.
إن أحد الأسباب الرئيسية لعدم تمكّن أصحاب المشاريع التي كان هدفها إحداث تغيير بنيوي في النظام اللبناني السياسي والاقتصادي من تحقيق تقدّم ملموس على سكة هذا التغيير يعود إلى إغفالهم خصوصية الحالة اللبنانية واعتبار لبنان بلداً كمعظم بلدان العالم تخضع عملية تغيير هياكله السياسية والاقتصادية في المقام الأول لعوامل داخلية/ محلّية.

* أستاذ وباحث في الاقتصاد السياسي

اقرأ دراسة «مسألة التغيير في لبنان: جدليّة الخارج والطائفيّة السياسيّة والاقتصاد غير المُنتج» هنا.