شهدت الأسابيع الأخيرة حديثاً مطّرداً عن ضرورة استعادة ثقة المجتمع الدولي بلبنان للحصول على التمويل اللازم لإنقاذ اقتصاده من الانهيار. وبغضّ النظر عن وجود إمكانية إنقاذ في هذه المرحلة، فإنّه لا بدّ من أن نفهم أن تمويل المجتمع الدولي، الذي يسعى البعض لتحويله إلى مطلب وطنيّ، لن يأتي على شكل تبرعات أو هبات. بل سيأتي عبر برنامج هو حزمة من القروض سيقدّمها صندوق النقد الدوليّ، مرفقة بشروط - تُدعى هذه العملية «المشروطية» - لا بدّ للدولة اللبنانيّة من تنفيذها.
لوم الهدف السهل
قبل تبنّي خيار السعي للحصول على التمويل من صندوق النقد الدولي، علينا أن نتنبّه إلى أنّ الصندوق، وغيره من المؤسّسات الماليّة الدوليّة، غالباً ما تلوم الدولة المدينة على مستوى الإستدانة العالي الذي أصبحت عليه، كما يوضّح جوزيف ستيغليتز في كتابه «إنجاح العولمة». بينما يجب أن يُشرك المقرضون في تحمّل الملامة؛ فلقد أقرضوا مبالغ كبيرة لدول لم يتحقّقوا بعناية لمعرفة ما إذا كانت ستكون قادرة على السداد. ويضيف ستيغليتز أنّ البلدان النامية الفقيرة ضحايا سهلة لأيّ شخص أو جهة تبيع القروض، ولا يمكن التغاضي عن عدم التكافؤ بين الدائن المحنّك والمتمرّس والمدين الأقل دراية.
وتصبح هذه العمليّة أكثر ظلماً إذا تنبّهنا إلى أنّ القروض الدولية تصبح البوابة التي من خلالها تواجه دولة نامية قوة صندوق النقد الدولي، كما يشرح ستيغليتز. وغالباً ما يتمزق البلد بين خيارَين سيئين: التخلّف عن السداد، الذي يجلب معه الخوف من الانهيار الاقتصادي، أو قبول تمويل صندوق النقد، الذي سيؤدي إلى فقدان السيادة الاقتصادية. ويضيف أنّ مشروطية صندوق النقد الدولي تقوّض الديمقراطية عبر مطالبته بنقل السياسة النقدية من أيدي المسؤولين الذين وصلوا إلى مراكزهم عبر العمليات السياسية الديمقراطية وتسليمها إلى «خبراء». ولكن من سيستحوذ على السيادة المفقودة؟

الولايات المتّحدة سيدة الصندوق
يشرح توماس أوتلي وجايسون ياكي، في دراستهما «المصالح الأميركية وعملية الإقراض في صندوق النقد الدولي»، كيف وإلى أيّ مدى تسيطر الولايات المتحدة على آليات اتّخاذ القرار في هذا الصندوق، عبر ممارسة النفّوذ على اتفاقيات «المشروطية». ويتصرّف السياسيون الأميركيون علناً، كما لو أنّ الولايات المتحدة تمارس نفوذها على اتفاقيات «المشروطية». فقد أقرّ الكونغرس الأميركي ما لا يقل عن 60 تشريعاً تطلب من ممثلها في الصندوق استخدام اتفاقات «المشروطية» لتحقيق أهداف أميركية محدّدة. والأهداف عادة تتعلّق بالسياستَين المالية والخارجية.

أنجل بوليغان ــ المكسيك

ويضيف أوتلي وياكي أنّ بعض الحكومات التي تتّجه إلى صندوق النقد الدولي تحصل على قروض أكبر من غيرها، وأنّ الأدلة تشير بقوة إلى أن المصالح المالية الأميركية مهمّة. فصندوق النقد يقدّم قروضاً للبلدان المثقلة بالديون للمصارف التجارية الأميركية، أكبر مما يقدّمه للدول الأخرى. وكذلك يقدّم الصندوق قروضاً أكبر للحكومات المتحالفة مع الولايات المتحدة. وبالإضافة إلى هذا، فإنّ للولايات المتحدة استخدام حقّ النقض ضدّ العديد من قرارات الصندوق. وبالتالي، لا يمكن لأيّ مدير للصندوق اتّخاذ قرار رئيسي من دون تصريح من هذه الدولة. هكذا تؤثّر الولايات المتحدة على عملية المساومة المحيطة بتصميم البرنامج الذي سيُقدّم للدول المدينة. حيث يتمتّع المدير التنفيذي الأميركي بهذا التأثير من خلال العمل مع وزارة الخزانة الأميركية لتطوير مواقف أميركية بشأن اتفاقيات «مشروطية» محدّدة، ثم الاجتماع مع موظفي الصندوق وأعضاء المجلس التنفيذي الآخرين خلال مرحلة تصميم البرنامج.

خبراء... لا خبراء
وبالإضافة إلى أنّ الدولة ستفقد سيادتها الاقتصادية، فلا ضمان أن من سيتسلّم القرارات السياديّة يجب أن يفقه خصوصيات البلاد المقترضة واقتصادها. فمثلاً، برامج الصندوق مصمّمة لتلبّي القناعات الأميركيّة في استقرار الاقتصاد الكلّي والتكيّف الهيكلي، لما فيهما من توسيع للاقتصادات القائمة على السوق لتشمل العالم النامي، كما يشرح أوتلي وياكي. بينما الحاجة الفعليّة للبلدان الساعية لمساعدة صندوق النقد قد تكون مختلفة كليّاً.
ويستفيض الاقتصادي جيفري ساكس في تشريح هذه المسألة في كتابه «نهاية الفقر». فيشير إلى أن صندوق النقد الدولي يركز على مجموعة ضيقة للغاية من القضايا مثل الفساد والمعوّقات التي تعترض المشاريع الخاصة والعجز في الميزانية وملكية الدولة للإنتاج ووسائله. ويفترض الصندوق أيضاً أنّ كلّ أزمة من الأزمات تشبه الأخريات. وقد استعان «بوصفة» موحّدة بقائمة خفض الميزانيات وتحرير التجارة وخصخصة الشركات المملوكة من الدولة، من دون أيّ اعتبار للسياق الذي يطبع كلّ دولة وأزمتها. فيتجاهل الصندوق المشكلات الملحّة التي تشمل مصائد الفقر والزراعة والمناخ والمرض والنقل، وهي مشاكل تقوّض التنمية.
ومن التبعات السلبيّة والعكسيّة الأساسيّة التي يواجهها أيّ اقتصاد يتعافى عبر برامج صندوق النقد، انخفاض الاستثمار الخارجيّ. فيشرح نِيْثن جِنسن، في بحثه «الأزمة والشروط ورأس المال»، أن برامج الصندوق يمكن أن تزيد وتيرة استبدال القادة السياسيين عبر ردود الفعل الانتخابية ضد شروط الصندوق المقررّة. ويمكن أن يترجم دور القيادة هذا في تغييرات جذريّة في السياسة يمكن أن تضرّ المستثمرين متعدّدي الجنسيات.
ويضيف ساكس أن صندوق النقد الدولي نادراً ما اتّخذ أهدافاً تنمويّة محدّدة كمعايير للحكم على أداء الدولة. يتم الحكم على البلدان على أساس مدخلات السياسة، وليس مخرجاتها. وقد يُطلب من الحكومة خفض عجز ميزانيتها بنسبة 1% من إجمالي الناتج المحلي، ويُحكم على ما إذا كانت تنفّذ هذا التدبير أم لا، وليس على مفعول التدبير في إنتاج نمواً أسرع أو انحساراً للفقر أو حلّاً لأزمة الديون. والنتيجة هي السقوط في نقاشات شكليّة حول تنفيذ سياسة معينة، وليس حول ما إذا كانت سياسة صحيحة. والسياسات تبدو ثابتة وموحّدة دائماً وتتمحور حول أربع مشاكل مفترضة هي: ضعف الحوكمة، التدخل الحكومي المفرط في الأسواق، الإنفاق الحكومي المفرط وملكية الدولة المفرطة. فتصبح عناوين الحوكمة والخصخصة وتحرير الأسواق والتقشّف هي العناوين الغالبة على البرامج.

التقشّف: الخطأ القاتل
التقشّف هو أسوأ العناوين التي تطرحها برامج صندوق النقد الدوليّ. ففي 2010 نشر راينهارت - روغوف دراسة «النمو في زمن الدين»، وقد حاجج الباحثان عبر منهجيّة تجريبيّة، بأنّ بلوغ الدين الخارجيّ الإجماليّ 60% من الناتج المحليّ الإجماليّ، يخفّض نسبة النمو السنويّ 2%. ويضيفان أنّ ارتفاع الدين الخارجيّ الإجماليّ إلى 90% من الناتج المحليّ الإجماليّ، يخفّض النمو السنويّ إلى 0.1%. لذا يزعم داعمو سياسة التقشّف أن الـ90% هي النسبة التي يجب أن تتوقّف عندها الاستدانة ويبدأ العمل بسياسة التقشّف لخفضها.
وبعد التدقيق في البيانات التي اعتمد عليها راينهارت - روغوف، تبيّن أنّهما أخطآ في البرمجة واستبعدا انتقائياً البيانات المتاحة والترجيح غير التقليدي للإحصاءات الموجزة. بمعنى آخر تصبح المنهجيّة التجريبيّة غير ذات حجّة، كما حاجج توماس هِرندون ومايكل آش وروبرت بولين. فعند استعمالهم البيانات بشكل صحيح وكامل وجدوا أنّ نسبة الـ90% تؤدّي إلى نسبة نموّ سنوي بقيمة 2.2% وليس 0.1%! وبالإضافة إلى هذه الأخطاء الجليّة، انتقد الكثير من الاقتصاديين - أهمّهم راندل راي - استعمال الثنائيّ راينهارت - روغوف منهجيّة تساوي نوعيّة البيانات عبر قرون وأنظمة تبادل مختلفة وأنواع ديون بالعملات الأجنبيّة والمحليّة، وكذلك تتجاهل نظريّات جديدة في عالم النقد المعاصر.
وفي المقابل ينطلق اقتصاديون آخرون من أن ضعف النموّ يسبّب ازدياد نسبة الدين للناتج المحليّ الإجماليّ، وليس العكس، وأنّ العلاقة السببيّة التي حاول الثنائيّ راينهارت - روغوف تثبيتها إنّما هي معكوسة. وكما يفترض الاقتصاد الكينزيّ التقليديّ، فإنّ الإنفاق العام يسهم في توسيع حجم الاقتصاد ونموّه، مّا يقلّص نسبة الدين للناتج المحليّ الإجماليّ، بينما يجب أن تلجأ الدول لسياسات التقشّف في حالات الازدهار الاقتصاديّ تفادياً للتضخّم.
لا يمكن لأيّ مدير في صندوق النقد الدولي اتّخاذ قرار رئيسي من دون تصريح من الولايات المتّحدة الأميركية


ورغم كلّ الانتقادات لدراسة راينهارت - روغوف ونتائجها، لا تزال سياسة التقشّف تُسوّق على أنّها الحلّ الأنجع في مواجهة التراجع والانهيار الاقتصاديين، وتتم المحاججة بأنّ الأخطاء الواردة في البحث تتعلّق بقيمة الانخفاض فقط، وليس بأصل وجوده. ورغم الكثير من الأوراق البحثيّة التي نشرها صندوق النقد الدوليّ، والتي تعدّد الآثار السلبية الملموسة الناتجة عن سياسات التقشّف في العقد الأخير، إلّا أنّ الصندوق لم يغيّر «الوصفة السحريّة»، ولا يزال يدفع باتّجاه هذه السياسات كلّما وجد نفسه أمام اقتصاد متعثّر يبحث عن قروض وحلول.
وهذا العناد ظهر جليّاً في ملاوي التي عصفت بها الأزمة في نهاية التسعينيّات. وعندما حاولت طلب المساعدة من الصندوق، كان شرطه تطبيق الوصفة المعتادة. طُلب من ملاوي التقشّف، حتّى في مصاريف إدراة تخزين الحبوب الاستراتيجيّة التي كانت تمنحها مخزوناً من الحبوب لمواجهة الطوارئ والانخفاض في الإنتاج. كانت ذريعة الصندوق أن هذه الإدارة غير فعّالة ومصاريفها أكثر من جدواها الاقتصاديّة. ومن ضمن ما طاله التقشّف برامج دعم زراعة الذرة للعائلات الأكثر فقراً. وخلال سنة واحدة من هذه السياسات هوى إنتاج الذرة إلى مستويات كارثيّة فيما اضطرت إدارة تخزين الحبوب إلى بيع ما تخزّنه في الأسواق لتتمكّن من دفع مصاريفها بعدما اقتطعت بنودها من الموازنة. المجاعة ضربت ملاوي وتسبّبت بموت 1500 شخص في 2002، إلّا أن الصندوق أصرّ على تنفيذ سياساته. لكن بعد تفاقم المجاعة، قرّرت الحكومة إعادة دعم زراعة الذرة فارتفع الإنتاج إلى فائض مليوني طن في السنة خلال فترة سنتين.

وصفة للبنان
انطلاقاً من كلّ ذلك، يحقّ السؤال عن مصير لبنان إذا سُمح للصندوق التدخّل في الأزمة الراهنة. ماذا سيحصل إن فرض علينا الصندوق التخلّي عن دعم الطحين أو المحروقات أو الدواء (وتأمين مصرف لبنان لاعتمادات بسعر الصرف الرسمي هو لدعم لهذه السلع)؟ ماذا سيكون مصير قدرة اللبنانيين الشرائيّة في حال رُفع الدعم عن الكهرباء؟ أو وضع اللبنانيين الصحيّ إذا جرت تصفية (أو خصخصة) الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؟
على الأرجح، لن يأخذ خبراء الصندوق بالاعتبار الظروف الاقتصاديّة الخاصة بلبنان، ولن يتنبّهوا إلى نوعية وبنية الاستهلاك، وإلى الشرائح المستفيدة من أنواع الدعم (وهي قليلة بالمناسبة)، وسيذهبون باتّجاه الدواء المفضل والمعتاد: حوكِموا، وتقشّفوا، وخصخصوا ما تبقّى من الدولة. والأرجح أيضاً أن من يروّج للصندوق كخيار وحيد، لن يطرح خيار التوقّف عن السداد كخيار جدّي. فلن يشرحوا أنّ عدم انخراط مصارف تجاريّة واستثماريّة غربيّة، وأميركيّة تحديداً، في الاستثمار بدَيننا السياديّ سيخفّف من حافزية صندوق النقد للتدخّل (كما شرح أوتلي وياكي)، وأنّ عدم وجود قوانين دوليّة تحكم التوقّف عن سداد الديون السياديّة يحصر العواقب بالسوق.
نحن لسنا بحاجة إلى صندوق النقد ليموّلنا لمعالجة الأزمة، بل يمكننا إدارتها بأنفسنا، ولا سيما إذا حافظنا على القرار السياديّ وقرّرنا تحميل الدائنين نسبة من المسؤولية أيضاً، وتوقفت الدولة عن السداد. لماذا نطالب به إن كانت حافزيته للتدخل ستكون لضمان المصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة؟