فجأة، صار الحديث عن "إعادة هيكلة الدين العام" مباحاً. قبل يومين فقط، كان مثل هذا الحديث سيعدّ هرطقة وفعل تخريب من أفعال الحاقدين، أما اليوم، فقد بات مطروحاً على طاولة المساومات، ويجري تقديمه كمخرج للسلطة يمكّنها من تجاوز الانتفاضة المستعرة ضدّها في الساحات والشوارع على طول البلاد وعرضها. وفق المعلومات المتاحة، عرض رئيس الحكومة سعد الحريري، يوم السبت الماضي، اقتراحاً يرمي الى "تصفير الفوائد" في موازنة عام 2020، أي إعفاء الخزينة العامة من تسديد الفوائد على سندات الدين لمدّة سنة واحدة فقط، على أن تلتزم الحكومة ومجلس النواب بتنفيذ جملة واسعة ممّا يُسمّى "الإصلاحات"، في مقدمها خصخصة الاتصالات والبدء بتطبيق خطة الكهرباء وتقليص القطاع العام، والامتناع عن أي استدانة جديدة، وبالتالي "تصفير العجز المالي" لسنة واحدة أيضاً. ورأى الحريري أن اقتراحه يلبّي شروط "سيدر" للحصول على قروض خارجية للاستثمار في بعض مشاريع البنية التحتية والشراكات مع القطاع الخاص وتحريك النمو الاقتصادي، كما يلبّي شروط بعض الجهات الخارجية التي أبدت استعداداً لإيداع بعض الدولارات لدى البنك المركزي وتعزيز موجوداته بالعملات الأجنبية وإبعاد شبح انهيار سعر صرف الليرة الثابت.
تلقّف العديد من شركاء الحريري في الحكومة هذا الاقتراح، وعَدُّوه بمثابة تغيير مهم في سياسات الحكومة وتوجهاتها، والأهم أنهم رأوا أنه يؤمّن أحد المطالب المرفوعة في الشارع، الداعية الى تحميل المصارف قسطاً من الكلفة المترتبة على تخفيض العجز المالي، بدلاً من التوسع في السياسات التقشفية المؤلمة وفرض المزيد من الضرائب على استهلاك الأسر، المستاءة من تدهور أحوالها المعيشية، والقلقة من انهيار قدراتها الشرائية بسبب انخفاض سعر صرف الليرة إزاء الدولار.
ولكن في المساومات التي جرت حتى الآن لبلورة هذا الاقتراح وتحديد آلياته التنفيذية، تبيّن أنه ليس سوى الطريقة التي سيجري عبرها خداع الناس. كيف؟
تقدّر مدفوعات الفائدة في موازنة عام 2020 بنحو 6.1 مليارات دولار، أي ما نسبته 36% من مجمل النفقات و48.5% من الإيرادات. وتنقسم مدفوعات الفائدة بين 3.7 مليارات دولار على الدين بالليرة و2.4 مليار دولار على الدين بالعملات الأجنبية. ووفق بيانات وزارة المال، تحمل المصارف نحو 31% من الدين بالليرة، فيما يحمل مصرف لبنان نحو 55%، وتحمل المؤسسات العامة الأخرى والجمهور نحو 14%. أما الدَّين بالعملات الأجنبية فتحمل المصارف نصفه تقريباً (نحو 16 مليار دولار)، والباقي موزع بين دائنين أجانب ومصرف لبنان وقروض خارجية.
انطلاقاً من هذا التوزيع، يوحي اقتراح الحريري بأن المصارف ستتحمّل ما يوازي حصتها من الدَّين، أي ما لا يقلّ عن 1.1 مليار دولار من الفوائد على الدين بالليرة، و1.2 مليار دولار من الفوائد على الدين بالعملات الأجنبية، وما مجموعه 2.3 مليار دولار، أو 31% من مجمل مدفوعات الفائدة في موازنة 2020، في حين سيتحمّل مصرف لبنان والمؤسسات العامة الأخرى بقية المبلغ المطلوب شطبه، أي نحو 3.8 مليارات دولار، نظراً الى عدم طرح تعريض الدائنين الأجانب لأي عمليّة "قصّ شعر".
تبيّن في المساومات الجارية أن الأمر ليس كذلك إطلاقاً، فالمصارف لن تتحمّل سوى 400 مليون دولار (وربما أقلّ أو أكثر قليلاً)، عبر رفع الضريبة على أرباحها من 17% إلى 35% استثنائياً، لمرّة واحدة في سنة 2020، علماً بأنها حاولت أن تحوّل هذه المساهمة في تحمّل الكلفة الى مصدر ربح دائم، إذ اقترح بعضها أن يكون رفع معدّل الضريبة دائماً وليس استثنائياً، في مقابل العودة الى إعفائها من موجب تسديد الضريبة على ربح الفوائد بنسبة 10% على توظيفاتها.
في المقابل، وافق حاكم مصرف لبنان على طبع ليرات بقيمة 4000 مليار ليرة (ما يعادل 2.6 مليار دولار)، أو استخدام "صندوق تثبيت القطع" لتسديد الفوائد المترتّبة على الدين الحكومي بالليرة، التي ستذهب بمعظمها الى المصارف نفسها، ولكن سيسدّدها مصرف لبنان بدلاً من الحكومة.
حتى ساعات متأخرة من الليل، كانت المساومات لا تزال مستمرة. ووفق مصادر مصرفية مطلعة، لم تسفر عن أي نتائج إضافية سوى إمكانية البحث بزيادة مساهمة مصرف لبنان، بما يؤمن شطب الفوائد على الدين بالليرة، وبالتالي لم يحصل أي تقدّم على صعيد شطب الفوائد على الدين بالدولار، ولا سيما أن استحقاقات سندات اليوروبوندز في العام المقبل تبلغ 2.5 مليار دولار، بالإضافة الى الفوائد (1.9 مليار دولار على هذه السندات و500 مليون دولار على القروض الخارجية الأخرى).
تتوقع المصادر المتابعة أن يفشل اقتراح الحريري في تصفير الفوائد في سنة 2020، وبالتالي سيفشل في تصفير العجز، وسيكون هناك حاجة الى مراكمة ديون جديدة، إذ إن العجز المقدر في الموازنة يبلغ نحو 4.4 مليارات دولار، أي أن شطب الفوائد لن يؤدي الى شطب العجز كلياً، بل تخفيضه الى ما بين 1.4 مليار و700 مليون دولار.
يشرح الحريري لشركائه في الحكومة أن ذلك يمكن تعويضه من خلال العودة الى بعض الإجراءات التقشفية وخصخصة بعض الخدمات والمرافق، ولا سيما شبكتي الخلوي. بمعنى العودة الى السياسات نفسها التي كانت من أسباب انتفاضة الناس.
في الواقع، لا شيء تغيّر كما يجري ترويجه، والحديث عن "إعادة هيكلة الدين" أو "شطب الفوائد" ليس سوى حديث مخادع، ليس لأنه يتعلق بسنة واحدة (2020) لتعود الأمور الى مجاريها وتتراكم الكلفة أكثر فأكثر، بل لأنه يقوم على نقل الكلفة محاسبياً "من العبّ الى الجيبة"، أي من الموازنة العامة الى ميزانية مصرف لبنان، ويعفي المصارف وكبار المودعين وسائر الدائنين من أي كلفة فعليّة، ما عدا "مكرمة" بقيمة 400 مليون دولار لسنة واحدة فقط.
قد يكون من المفيد في هذه المناسبة استعادة تعهدات الحكومة والتزاماتها في هذا الشأن، لأنها على ما يبدو باقية من الثوابت في السياسات المعتمدة، فهل تذكرون البيان الذي تلاه وزير المال علي حسن خليل من قصر بعبدا بعد حديث عابر في مطلع هذا العام عن احتمال اللجوء الى إعادة هيكلة الدين العام. لقد جاء في البيان: "إن هذا الموضوع غير مطروح على الإطلاق، فالدولة اللبنانية ملتزمة تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً المحافظة على حقوق المودعين والمصارف وحاملي مختلف سندات الدين السيادية، وذلك تقيداً بتسديد الاستحقاقات والفوائد في التواريخ المحددة لذلك، من دون أي إجراء آخر".
هذا الالتزام لا يزال سارياً، فلا تدَعوا الخدعة تمرّ عليكم، فما يجري الحديث عنه ليس سوى الطريقة لبقاء هذه الحكومة وتفادي سقوطها.