هناك خوف عام يُخيّم على لبنان. لكن هذا الخوف من الانهيار المالي ليس مجرّداً، أو خوفاً جماعياً على مصير الوطن، بل هو خوف الطبقات جميعها على مصالحها ومواقعها الاقتصادية المختلفة. التوجّس الأساسي اليوم هو من تغَيّر قيمة النقد أو سعر العملة، وهذا أمر كان قد شهده اللبنانيون في ثمانينيات القرن الماضي. لكن لماذا هذا الخوف الكبير اليوم؟منذ 1993 صيغت العلاقات الاقتصادية، شيئاً فشيئاً، بين الطبقات والعملاء الاقتصاديين على أساس سعر ثابت لليرة اللبنانية تجاه الدولار الأميركي، وعلى الرغم من أن ذلك لم يعني انتفاء تغيّر الأسعار صعوداً (التضخّم) أو هبوطاً (الانكماش)، ومعه أرباح وخسائر نسبية هنا وهناك، إلّا أن هذا الثبات أمّن بيئة قيمية مستقرّة لتحديد المداخيل وتخزين الثروة ولكتابة العقود (مثلاً القروض) والتفاوض (مثلاً بين العمّال والرأسمال على الأجور) بين مختلف العملاء الاقتصاديين. اليوم، كل هذا مهدّد بالانتهاء، وعندها لن يخسر الجميع، بل سيكون هناك، كما دوماً، في أحداث كهذه، رابحين وخاسرين. يقول جون ماينارد كينز: «إن التغيّر في الأسعار والمكافآت، كما تُحْتَسَب بالنقد، يؤثّر بشكل عام على الطبقات بشكل غير متساوٍ، وينقل الثروة من طبقة إلى أخرى، يُعطي الغنى هنا ويُعطي العوز هناك».
إذاً، حاملو السندات، العمّال والموظّفون، التاجر، الصناعي، المصارف، الدولة، المتقاعدون ـ وحتى لا ننسى ـ العاملون اللبنانيون في الخارج وغيرهم، كلّهم سيدخلون في أتون انتقال الثروة والدخل من أ إلى ب، ومن ب إلى ج، ومن ج إلى أ،....إلخ. فمثلاً ستنتقل الثروة من حاملي السندات الحكومية بالليرة اللبنانية إلى الدولة اللبنانية (وهو ما يعكس 25 عاماً من الانتقال بالعكس أي من الدولة إلى حاملي السندات!)، ومن المصارف إلى المدينين بالليرة اللبنانية (أيضاً كسابقها!)، وهكذا دواليك. ففي الثمانينيات، ربحت المصارف والمُضارب والدولة والصناعي وخسر العمّال والموظّفون وخسر بعض الريعيين (ملّاك البيوت المستأجرة) وأصحاب الادّخارات المتوسّطة والصغيرة، وربح المدينون وخسر الدائنون.

تغيير القيم قسراً
إذاً الرهان هو عالياً على الجميع، لكن الأجور هي التي تبدو الآن تتقدّم الصفوف الأمامية للتضحية درءاً لحصول الأزمة عبر فرض تغيير القيم قسراً بدلاً من تركها للسوق. في هذه الحالة، بدلاً من انهيار الأجور الحقيقية عبر انهيار النقد، يتمّ خفض الأجور الاسمية أو تجميدها لفترة طويلة. في المقلب الآخر، يمكن أيضاً خفض قيمة الدَّيْن و/ أو خدمته ليس عبر انهيار النقد، بل عبر التخفيض القسري للفوائد أو لأصل الدَّيْن نفسه، وفق ما جاء مثلاً في تقرير «غولدمان ساكس» الذي طرح إمكانية خفض كبير مقداره 65 في المئة. هذه التخفيضات القسرية، التي تُبحث الآن، في بعض الأحيان بشكل مخفّف، وفي بعض الأوقات بشكل واضح وقاسٍ في النقاش العام وفي الموازنة، مثل الدعوات إلى خفض الأجور في القطاع العام، أو تبحث بشكل لطيف مثل «مشاركة المصارف في الحلّ»، هي صعبة جدّاً، لأنها، على عكس انهيار العملة، لا تبدو أمراً طبيعياً أو قدرياً، بل تضع الصراع بين الطبقات على «الكعكة الاقتصادية» في الواجهة.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

عندها لا يبدو الأمر على أنه «تضحية جماعية» لأن الطبقات ستكون في ريبة من بعضها البعض. من يضمن للمصارف، مثلاً، أنها لن تكون الوحيدة التي ستدفع الثمن؟ ومن يضمن للموظّفين أيضاً هذا الأمر؟ كينز مرّة أخرى حول هذا الأمر، في وصف ربّما فيه الكثير ممّا يحصل اليوم في لبنان «يجب أن لا نتوقّع أن تفهم الطبقات العاملة ما يحصل أكثر من الوزراء في الحكومة. إن الذين يُهاجَمون أوّلاً، يواجهون خفضاً في مستوى معيشتهم لأن كلفة المعيشة لن تنخفض إلّا إذا تمّ الهجوم بنجاح على الآخرين، ولذلك فهم محقّون في الدفاع عن أنفسهم. ولن يضمن أحد للطبقات التي ستتعرّض في البدء لخفض أجورها الاسمية..أن المنافع لن تذهب إلى طبقة أخرى. لذلك فهم محكومون بالمقاومة ما استطاعوا وستكون حرباً حتى يتمّ سحق الأضعف اقتصادياً»!

الأجور «المنضبطة» في الأمس
إن تحميل الأجور وِزْرَ الأزمات والمتغيّرات الاقتصادية هو ليس بالأمر الجديد في لبنان. ففي فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات، كانت الأجور أيضاً هدفاً للطبقة الرأسمالية ومنظّريها ومؤسّساتها. قبل الانهيار وفي بداياته، شُنَّت حملة إيديولوجية ضد الأجور كنت ذكرت بعضها سابقاً (انظر إحداها، ضدّ الطوطمية).
من المهم اليوم أيضاً استذكار بعض ما كُتب حول الأجور في ذلك الوقت، والذي يشبه ما يقوله بعض الاقتصاديين والسياسيين اليوم. قال الاقتصادي نديم خلف في مقالة نُشرت في النشرة الفصلية لمصرف لبنان لعام 1985 إن طرق محاربة التضخّم هي اثنتان. أولاً، «انضباط الأجور» (wage discipline) حيث يقول: «على الحاصلين على الأجور أن يفهموا كم مهمّ أن يصبحوا، كغيرهم من العملاء في الاقتصاد، «محاربين للتضخّم»... لذلك عليهم أن يقبلوا أن التغيّر في أجورهم يجب ألّا يتبع فقط التغيّر في كلفة المعيشة، بل قدر الإمكان أن يعكس التغيّر في الإنتاجية، وفي الربحية في القطاع الخاص (المقدرة على الدفع) وفي الطلب على العمالة». ثانياً، سياسة ضرائب غير مباشرة على الاستهلاك. يقول في هذا الإطار: «على المستهلكين أن يُعانوا، وهذه إحدى الطرق ليصبح المستهلكون «محاربين للتضخّم»، ومستعدّين لقبول انخفاض حقيقي في مستوى معيشتهم، وفقط إذا فعلوا ذلك يمكن أن تتمّ السيطرة على التضخّم في المدى الطويل»!
حسناً، ولكن أين كان دور الطبقات الأخرى في «محاربة التضخّم»؟ وأيضاً، من كان سيفرض هذا «التوافق» على كل الطبقات لتصبح «محاربة للتضخّم»؟ بعد ذلك طبعاً، أي بعد 1984، ازدادت ديناميكية التضخّم وانخفضت الأجور الحقيقية وانخفض الاستهلاك الحقيقي. فبدلاً من أن يصبح الجميع «محاربين للتضخّم»، كان انهيار العملة المُتسارع والتضخّم العالي هو الحلّ!
وبعد ذلك، كانت الأجور أيضاً هدفاً خلال فترة التثبيت النقدي منذ عام 1993. ففي نهاية عام 1992، كان لبنان لا يزال يعاني من إرهاصات هذا التضخّم وانهيار العملة وكان قرار تثبيت سعر الصرف يهدف إلى وقف التضخّم. في بداية الأمر، انخفض التضخّم من 120% في عام 1992 وتمّ تصحيح الأجور، وبدا لوهلة أن الجميع يربح. لكن التشقّقات بدأت تحصل سريعاً حيث بدا أن عجوزات الخزينة وتراكم الدَّيْن العام سيصبحان خارج السيطرة، كما أن سعر الصرف الحقيقي ارتفع، فخسر المصدّرون لأنهم باتوا يحصلون على ليرات أقل لكل دولار يصدّرونه. وعلى إثر ذلك، تمّ تجميد الحدّ الأدنى للأجور من عام 1996 إلى عام 2008. وبالتالي دفع العمّال والموظّفون ثمن التضخّم كما ثمن التخلّص منه!

البجعة السوداء
كان يُقال إنه في الاقتصادات الاشتراكية كان هناك نوع من «التضخّم المقموع» أي إن أسعار السلع هي متدنية بشكل قسري أو اصطناعي وسرعان ما ستنفجر. في لبنان، اليوم يمكن القول إن النموذج الاقتصادي الذي بُنِي بعد 1993، كان يعتمد على نوع من «الأجر المقموع» الذي سرعان ما انفجر في 2018 في القطاع العام. لقد كانت سلسلة الرتب والرواتب نوعاً من الحدث الفريد أو «البجعة السوداء». وبالتالي، كانت صدمة للاقتصاد السياسي اللبناني المبني على أجور «شبه مجمّدة» أو «منضبطة». اليوم تحاول الحكومة أن تعيد هذه البجعة السوداء إلى المكان الذي أتت منه، ولكن من الصعوبة بمكان، أو من المستحيلات في النظام الرأسمالي، أن يتمّ القبول بخفض الأجور الاسمية (أي أن يقبل الموظّف أن يُخَفّض أجره). وهذا يُفسِّر ما نشهده اليوم.
إن المطلوب اليوم «مساومة تاريخية» أداتها، ليس التخفيض القسري للقيم، بل النظام الضريبي الذي يمكن أن يُستعمل بفعالية لتحقيق خفض لعجز الخزينة كما لخفض عجز لبنان مع الخارج. ويمكن من خلالها أيضاً، خلافاً للأدوات الأخرى، القسرية أو التضخّمية، أن تُحتسب أرباح وخسائر الطبقات المختلفة بدقّة. فالطبقات العاملة والوسطى قد تقبل بضرائب استهلاكية إذا وُضعت ضرائب أعلى على الأرباح والمداخيل الخارجية والريع والثروة وانتقالها. في المقابل، إن التخبّط الحاصل اليوم وأحادية الحلول ومحاولة تحميل الخسارة للفئات «الأضعف اقتصادياً»، لن تؤدّي إلّا إلى تعميق الأزمة وسيكون لها آثار كارثية إذا حصل الانهيار. فعلى الرغم من أن لينين لم يقل ما ذكره كينز (هناك من يقول إن كينز اقتبس القول من كوبرنيكوس!)، لأن لينين لم يكن يريد تدمير الرأسمالية في حدّ ذاتها بل تخطّيها نحو الاشتراكية*، فإن ما قاله كينز يجب أن يكون في بال الجميع اليوم. يقول كينز: «لينين كان بالتأكيد محقّاً. ليست هناك طريقة، أكثر دهاءً وأكثر تأكيداً، لقلب الأسس الحالية للمجتمع من تخريب العملة. إن هذه العملية تُجنّد كل القوى الخفية للقانون الاقتصادي إلى جانب التدمير، وتفعّلها بطريقة لا يستطيع رجل واحد من مليون أن يُشخّصها». إذاً، نحن بحاجة إلى قيام تحالف واسع من أجل التغيير الفعلي لدرء الخطر المُحدق وبناء ـ كما دعا له الحزب الشيوعي في يوم العمّال العالمي ـ اقتصاد للبنان القرن الواحد والعشرين، لأنه إذا انهار الاقتصاد في ظروفنا هذه، ومن دون وجود قوى ديموقراطية على مدى الطيف السياسي، وفي ظلّ التشظّي المذهبي الكامن، فإننا سنتجه، بخطى واضحة، إلى الفوضى التدميرية.

* القول ليس موجوداً في أعمال لينين، وإن كانت صحيفتان غربيتان نقلتا عنه ما له علاقة بطبع العملة في روسيا، لتمييع قوّة الرأسماليين خلال فترة «شيوعية الحرب»، والتي تمّ استبدالها بالسياسة الاقتصادية الجديدة أو «النيب» في 1921.