عدم تشكيل الحكومة، هو دليل إضافي على عجز القوى المُسيطرة عن إدراك المخاطر التي تهدّد المجتمع اللبناني، وبالتالي عدم أهليّتها لإدارة الأزمة القائمة. أمّا تشكيل الحكومة المُنتظرة، الآن أو بعد حين، فسيكون سبباً آخر للقلق، إذ أن الإجراءات المُقترحة لتخفيض العجز المالي تتّجه إلى تحميل فئات الدخل الأدنى والمتوسّط القسط الأكبر من كلفة شراء المزيد من الوقت بأثمان باهظة.لقد دخل الاقتصاد اللبناني في حالة ركود تضخّمي يُخشى أن تكون طويلة المدى، إذ يترافق ارتفاع التضخّم مع انخفاض مستمرّ في معدّل النموّ الاقتصادي وتنامي البطالة وتراجع الهجرة وصافي التحويلات الخارجية وزيادة العجزين التوأمين المالي والجاري، وبالتالي زيادة المديونية الداخلية والخارجية.
وفق المؤشّرات الصادرة أخيراً، سجّل الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك، الذي تُعدّه إدارة الإحصاء المركزي، ارتفاعاً سنوياً بنسبة 5.83% في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بالمقارنة مع الشهر نفسه من العام الماضي. وواصل نموّ الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي تباطؤه، وانخفض إلى 0.6% فقط في عام 2017، ويُتوقّع أن يكون قد سجّل معدّل نموّ أدنى في هذا العام، نظراً لتكاثر الأخبار السيّئة في السوق العقارية وتعاظم الضغوط النقدية والمالية وتضخّم المخاطر المصرفية وارتفاع العجز التجاري وعجز ميزان المدفوعات وتباطؤ نموّ الودائع. وكان البنك الدولي قد عمد إلى تخفيض توقّعاته لنموّ الناتج المحلّي الإجمالي في هذا العام من 1.8% إلى 1%، علماً أن توقّعاته للنموّ أعلى من توقّعات إدارة الإحصاء المركزي. وكذلك عمدت وكالتا التصنيف «موديز» و«فيتش» إلى تعديل نظرتهما المستقبلية إلى الأوضاع في لبنان من «مستقرّة» إلى «سلبية»، وهو اتجاه تسير عليه كلّ وكالات التصنيف الدولية، التي بدأت تلوّح بتخفيض درجة التصنيف السيادي للدولة اللبنانية والمصارف المحلّية إلى مرتبة مخاطر التوقّف عن سداد الدين، وهذا الاتجاه يمثّل حجّة قوّية في أسواق الدين لرفع علاوة هذه المخاطر، وبالتالي مواصلة رفع أسعار الفائدة وجني عوائد مرتفعة على توظيفات الودائع ورأس المال المصرفي بما يتجاوز كثيراً نموّ الدخل (الأجور والأرباح) في الاقتصاد. لقد ارتفعت أسعار الفائدة الفعلية (الرائجة في السوق) منذ إطلاق الهندسات المالية في النصف الثاني من عام 2016، وحقّقت المصارف وكبار مودعيها عائداً فورياً بنسبة تفوق الـ40% على كلّ دولار جرى توظيفه لدى البنك المركزي، كما دفعت الضغوط على سعر صرف الليرة إلى استخدام أدوات نقدية مرتفعة الكلفة وشديدة التأثير، انطوت على «مصادرة» السيولة بالليرة والعملات الأجنبية وتقييد حرية التحويل بين العملات وبين لبنان والخارج، وذلك عبر إغراء شرائح واسعة من أصحاب الودائع المتوسّطة والمتدنّية القيمة لإبقاء ودائعهم بالليرة وإطالة آجال استحقاقها في مقابل فوائد سخيّة، وصلت في بعض الحالات إلى أكثر من 25% إذا كانت الوديعة بالدولار وجرى تحويلها إلى الليرة وتجميدها لأكثر من سنة. كذلك، جرى إغراء العديد من المقترضين بالليرة لتحويل قروضهم إلى الدولار في مقابل فائدة تقارب الصفر، وهو ما يزيد مخاطر التعثّر في ظلّ أي انخفاض في سعر صرف الليرة. هذه الفوائد السخيّة يموّلها مصرف لبنان عبر المال العامّ، وهو نجح أخيراً بفرض زيادة سعر الفائدة من 7.46% إلى 10.50% على سندات الخزينة بالليرة التي تصدرها وزارة المال لتمويل عجز المالية العامّة، ما يعني أن خدمة الدين العامّ سترتفع في العام المقبل وحده بما لا يقلّ عن 1000 مليار ليرة، وستستنزف أكثر من نصف إيرادات الموازنة والخزينة وستزيد العجز والمديونية إلى مستويات أعلى بكثير من المستويات الحالية.
كلّ هذه المؤشّرات، وهي على سبيل المثال لا الحصر، تفيد أن الأزمة القائمة ليست ظرفية بل بنيوية، وهي تكمن في النموذج الاقتصادي نفسه واقتصاده السياسي والمصالح التي ترسخّت فيه على مدى ربع القرن الماضي، سواء على صعيد تراكم رأس المال وتركّزه أو تراكم السلطة وتركّزها. وما يحصل اليوم، ويُراد له أن يتبلور أكثر في السياسات التي ستناقشها الحكومة العتيدة، هو محاولة يائسة للمحافظة على هذا النموذج لأطول وقت ممكن، وبما يحقّق المزيد من المكاسب لعدد قليل جدّاً من اللاعبين المهيمنين على الدولة والاقتصاد. وهذه المحاولة تقوم بشكل واضح على زيادة الكلفة المترتبة على المال العامّ، وبالتالي على حساب دخل المقيمين واستهلاكهم وحاجاتهم، وتحويل الأزمة إلى أزمة قطاع عامّ، فيما هي أزمة قطاع خاصّ بامتياز، يعاني من سطوة مصالح المصرفيين والمستوردين وملّاك الأراضي وتجّار البناء والمقاولين ومن لفّ لفّهم.
هناك حقيقة لا يمكن الهروب منها، وهي تفسّر الكثير ممّا يجري اليوم. فالنموذج الاقتصادي الذي نشأ وترعرع وكبر منذ تسعينيات القرن الماضي، قام على آلية مُحدّدة وواضحة: بدلاً من زيادة الإنتاج في الاقتصاد المحلّي، وخلق فرص العمل وتعظيم الدخل والثروة وإعادة توزيعهما لمصلحة رفع مستوى الرفاهية في المجتمع، جرى تشجيع هجرة القوى العاملة الماهرة والمتعلّمة طمعاً في الحصول على تحويلاتها، التي تظهر في الحسابات القومية كهدايا بلا مقابل، في حين أنها تجسّد أحد أكبر مصادر النزف في الاقتصاد اللبناني. كما جرى تشجيع تدفّق الاستثمار الأجنبي المباشر وتوجيهه نحو المضاربات المالية والعقارية، عبر إعفاء أرباح الفوائد وتجارة السندات والأسهم والعقارات من أي عبء ضريبي فعليّ. لقد نجحت هذه الآلية باجتذاب تدفّقات خارجية ضخمة، قدّرها البنك الدولي بأكثر من 280 مليار دولار بين عامي 1993 و2017، إلّا أنها لم توجّه للاستثمار، بل موّلت الإفراط في الاستهلاك والاستيراد، إذ بلغ العجز التجاري المُتراكم نحو 261 مليار دولار، وغذّت مضاربات عقارية قُدّر حجمها بأكثر من 170 مليار دولار (المبيعات العقارية في هذه الفترة). واعتمدت هذه الآلية على المصارف لتحويل هذه التدفّقات إلى زيادة في الودائع وتوظيف هذه الودائع في تضخيم المديونية العامّة والخاصّة، التي تبلغ اليوم 4 أضعاف مجمل الناتج المحلّي السنوي، وتستأثر بربع الدخل المُحقّق.
هذه الآلية تواجه مشكلة جدّية، إذ يسجّل ميزان المدفوعات عجزاً مستمرّاً منذ عام 2011، ويقدّر أن يبلغ العجز في هذا العام وحده أكثر من 5 مليارات دولار، وهذا يدلّ على نزفٍ متصاعدٍ للعملات الصعبة، إذ أن ميزان المدفوعات يشير بطريقة ما إلى أن حجم الأموال الخارجة من لبنان يفوق بكثير حجم الأموال الداخلة إليه، وهذا يظهر بوضوح من خلال المؤشّرات الأخيرة، التي تفيد باستمرار انخفاض صادرات الخدمات، ولا سيّما السياحة، وصافي التحويلات وكذلك انخفاض الاستثمار الأجنبي إلى أقلّ من 4% من مجمل الناتج المحلّي.
لا تدلّ هذه المؤشّرات إلى أن الأزمة محصورة بسعر صرف الليرة، بل هي أزمة تمويل للنموذج برمّته، وبالتالي تقوم المحاولة، التي يتنظر تنفيذها تشكيل الحكومة، على التضحية مجدّداً بفرصة تصحيح هذا النموذج بطريقة مُدارة، وتركه يستفحل أكثر من خلال الإمعان في الذهاب إلى المزيد من برامج التقشّف وتقليص حجم القطاع العامّ وإخراج الدولة نهائياً من دائرة التأثير في الاقتصاد.
هذا ما يجري طرحه الآن كبرنامج عمل للحكومة العتيدة، وهذا ما يتوجّب علينا مواجهته.