سعد الله مزرعاني *في نطاق جولة الاستشارات الثانية التي باشرها الرئيس المكلّف سعد الحريري، لوحظ أنّ الرجل تقصّد التوسّع في النقاش. وهو، لهذا الغرض، كرّس وقتًا أطول للكتل وللأفراد من أعضاء المجلس النيابي، كما أنّه مدّد الوقت المخصّص للاستماع إلى النواب كتلاً وأفراداً، إلى ما يعادل جولة ثانية جديدة (أو ثالثة) من الاستشارات. المهم أيضاً في هذا الأمر، أنّ وسائل الإعلام أشارت (وأكّد المعنيّون) أنّ «الشيخ» سعد الحريري طرح وأعاد على مسامع النواب، عدداً من الأسئلة التي تناولت «أزمة الحكم والطائفية والخصخصة والدَّين العام والملفّ الفلسطيني (ملف سلاح «حزب الله» موجود على طاولة مؤتمر الحوار)».
البعض وجد في هذا الأسلوب الجديد محاولة لـ»المماطلة وكسب الوقت». هذا ما عبّر عنه فريق نافذ في تجمّع المعارضة. لكن سرعان ما رحّب فريق آخر في تجمّع المعارضة نفسه بإطالة الاستشارات، والتوسّع في المواضيع، لأنّ من شأنهما أن يضفيا على اللقاءات، وخصوصاً بين بعض أطراف المعارضة والرئيس المكلّف، طابعاً جديّاً.
لا شكّ أنّ الرئيس المكلّف، وفريقه، كانا ولا يزالان يحتاجان إلى كسب بعض الوقت من أجل التعامل مع الوضع المعقّد الذي تجري في ظلّه المفاوضات، سواء على مستوى المعارضة أو الأكثرية، وكذلك بالنسبة إلى الوضعين الإقليمي والدولي. وليس خافياً على أحد عمق ارتباط الشيخ الشابّ وتيار «المستقبل» بقيادة المملكة العربية السعودية. وتزيد من إرباك الحريري وفريقه مجموعة عوامل من بينها غموض والتباس المستوى الذي بلغه التنسيق السوري ـــــ السعودي، ومن ثمّ دور اللاعبين الآخرين في التأثير في الوضع اللبناني والموقف السعودي، وخصوصاً دور الولايات المتحدة الأميركية. أضف إلى ذلك ارتباك التوازن الذي مكّن سعد الحريري من أن يكون رئيساً مكلّفاً، وخصوصاً بعد الانعطاف المؤثّر الذي طرأ على موقف شريك أساسي في تجمّع 14 آذار، هو رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي و»اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط.
كلّ هذه الأمور معروفة، لكنّ اللافت، الذي يجب التوقّف عنده، هو العناوين ـــــ الأسئلة التي طرحها الرئيس المكلّف على النواب في الاستشارات «غير الملزمة». هنا يقع الجديد بالفعل. بل هنا تُطرح أكبر التساؤلات وأبعدها أثراً وأهمية. فالعناوين التي تناولها الرئيس المكلّف تصيب مسائل حسّاسة ومهمّة وأساسية في مجرى الصراع الدائر في البلاد وعليها. فهل يمكن ببساطة، تفسير طرح الأسئلة وتجميع أجوبة بشأنها، بضرورة وضع أساس لتأليف الحكومة؟ هذا اتجاه يروّج له فريق في الأكثرية من أبرز رموزه حزب «القوات اللبنانية». فهذه القوات تلحّ على فكرة وجود خيارات متضاربة بين فريقي 8 و14 آذار، وبالتالي على ضرورة بناء فرز على أساسها، كمنطلق للتشكيلة الحكومية العتيدة. وكان الإعلام التابع للرئيس المكلّف قد أوحى بأنّ الاعتذار كان الهدف منه التخلّص من المعادلة التي حكمت المرحلة الأولى، للانطلاق نحو معادلة أخرى تقوم على مبدأي: مراعاة الأكثرية من جهة، والتزام الخيارات العامة، من جهة أخرى. معروف أنّه حصل تحوّل تدريجي، بل سريع نسبيّاً، بشأن التوجّه المذكور، لجهة التراجع عنه وفي مسائل عامّة وحتى تفصيلية، وقد شمل ذلك حتى البطريرك الماروني نصر الله صفير (الذي بات ينخرط أكثر فأكثر في «التفاصيل السياسية»). يعود الجزء الأساسي من هذا التحوّل إلى استئناف الاتصالات السورية ـــــ السعودية، وعلى أعلى مستوى. ويعود السبب الثاني إلى واقع توازن القوى بين تكتّلي 8 و14 آذار، وهو توازن متعادل، حتى قبل أن يعلن وليد جنبلاط انعطافته الصاخبة في الثاني من آب الماضي، ومن ثمّ يواظب عليها ويعزّزها، حتى يومنا هذا، فكيف بعد الإعلان الجنبلاطي؟!
ما كان يجري الحديث عنه من «إصلاح مالي»، لا علاقة له بالإصلاح الحقيقي في هذا الحقل
ومع ذلك، أي رغم التسليم بأهمية عامل الرغبة في كسب الوقت من جانب الرئيس المكلّف وفريقه المباشر، فإنّ السؤال الذي يحتاج إلى تفسير هو: لماذا طرح سعد الحريري ما طرح من عناوين، لم تكن تُطرح من قبل؟ يعزّز من مشروعية طرح هذا السؤال، أنّه لم تكن تُعرف للسيّد الحريري ولفريقه مواقف إيجابية بشأن أمور الإصلاح عموماً. وما كان يجري الحديث عنه من «إصلاح مالي» من جانب هؤلاء، لا علاقة له في الواقع، بالإصلاح الحقيقي في هذا الحقل، أو في سواه من الحقول الأخرى (السياسية والإدارية والقضائية...). على العكس من ذلك، ففي مجرى المعركة الانتخابية، جرى بغرض التعريض والتحريض من جهة، والكسب الانتخابي من جهة أخرى، إعلان التمسّك بـ»المناصفة» بين المسلمين والمسيحيّين... أي التمسّك بالطائفية وبالمؤقت في الدستور وبما يتعارض مع الدستور نفسه بشكل فاضح، إن لم نقل بشكل وقح! ولقد طُرحت «المناصفة» في حينه في وجه تهمة «المثالثة» التي نُسبت إلى طرفي المعارضة الأساسيَّيْن: «حزب الله» كداعية تعديل لاتفاق «الطائف»، والعماد ميشال عون كمتواطئ على ذلك (ولو على حسابه!).
ما الذي دفع إذن إلى طرح تلك العناوين بالفعل؟ قد نجد بعض الجواب في تعاظم «أزمة الحكم» وما تنطلق منه من أساس طائفي ومذهبي (بالدرجة الأولى)، وبالتالي تلمّس ذلك من جانب سعد الحريري وفريقه. ليست الضغوط من أجل الإصلاح، للأسف، بالحجم المطلوب، رغم ما تصاعد من إدراك للمشكلة التي تعانيها البلاد بسبب النظام السياسي الطائفي، وبسبب الانقسام الذي يولّده ويفاقمه بين اللبنانيين، وبسبب مناخ الارتهان للخارج الذي يقود إليه. ورغم غموض الهدف من طرح عناوين كبيرة ومهمة (بمعزل عن النتائج والأولويات)، يجب القول أيضًا، إنّ شعار «بناء الدولة» الذي يطرحه فريق 14 آذار في وجه فريق 8 آذار، إنّما هو شعار فارغ. وهو يجد بعض مشروعيته فقط، بسبب الثُّغر الكبيرة التي تسِم سياسات فريق 8 آذار وتوجّهاته، وخصوصاً، لجهة افتقاره إلى مشروع إصلاحي للخلل الطائفي والمذهبي (بل إنّ هذا الفريق يبدو اليوم أكثر محافظةً وجموداً في الشأن السياسي والاجتماعي والإصلاحي). ولهذا يبدو بناء أو إقامة الدولة كشعار مطروح من جانب فريق 14 آذار، موجّهاً فحسب، ضدّ سلاح «حزب الله» وضدّ المقاومة، أي تحديداً ضدّ الدور الإيجابي الذي تمثّله المقاومة، فيما يتماثل الطرفان تقريباً، في موقفهما السلبي من موجبات بناء الدولة الموحّدة والسيّدة: دولة القانون والحرية والعدالة والمساواة والمواطنة ...
ومع ذلك، يجب أن نرى بعض الإيجابية في طرح العناوين المذكورة. ويجب كذلك أن نلاحظ إيجابيات أخرى في ما صدر وما يصدر من مواقف بشأن ضرورة طرح موضوع إلغاء الطائفية السياسية، أو تطوير قانون الانتخابات، أو مشروع «التيار الوطني الحر» لتعزيز اللامركزية الإدارية... فهذه الإيجابيات، هي ثمرة عاملين: أوّلهما النضالات المثابرة والمتواصلة التي خاضتها قوى وشخصيات ديموقراطية. وثانيهما الأزمات المخيفة التي يعانيها اللبنانيون، والتي تكشف باستمرار عجز أطراف الحكم وأنانيّتهم وفئويتهم (وارتهانهم للخارج).
ويكون المطلوب وفقاً لذلك، وبعيداً عن أوهام التحوّلات الكبيرة والمعالجات الجذرية السريعة، تطوير النضال الديموقراطي المقترن باستمرار المواجهة مع مشاريع الهيمنة في المنطقة. فهذا النضال وتلك المواجهة هما سبيل إنقاذ لبنان من أزمات الحكم والحكومة والحكّام!
* كاتب وسياسي لبناني