المشوار إلى عين سعادة مؤلم هذه الأيام. فبدل أن تعد نفسك بهواءٍ نظيف ومناظر تكسر قسوة المدينة، أنت وسط مشاكل أناس يتعرّضون لأذى أعمدة التوتر العالي. أما الأمر الوحيد المضحك الذي تخرج به من «مشوارك»، فلافتة «خطر الموت» المثبتة باتجاه الحائط
محمد محسن
في تلال عين سعادة وشوارع المنصورية، الكهرباء ضيف ثقيل الظل، ولن تجد وصفاً لأعمدتها الشاهقة أدقّ من عبارة قالها طفل لأبيه: «بابا بخاف امشي حد وحش الكهربا». ببساطة، لن تحتاج إلى الوصول إلى المنطقة لرؤية هذا «الوحش»، إذ تبدو أعمدة التوتر العالي من بعيد سكيناً يطعن خاصرة الأحراج الجميلة في تلك المنطقة. قصتنا بالتحديد لا تزال فصولها تتوالى في منطقة تلال عين سعادة، وتحديداً في منطقة العقار الرقم 380، حيث زرعت مؤسسة «كهرباء لبنان» منذ فترة عموداً يحمل خطوط توترٍ عالٍ بقوة 220 كيلوفولت، لا يبعد سوى عشرين متراً عن عمود آخر بقوة 150 كيلوفولت. وبين العمودين أربعة مبانٍ متلاصقة، يقول سكانها إنهم يعانون من تأثيرات ذبذبات عمود الـ150 كيلوفولت، لكون العمود الثاني لم يشغّل حتى الآن، بسبب تدخّل أهالي المنطقة ونوابها لمنع تشغيله، إذ يعتقدون أنه لو حصل ذلك، فستقع المنطقة أسيرة ضغطٍ كهرومغناطيسي هائل، ويخشون من أن يؤدي ذلك إلى أمراضٍ سرطانية.
فمنذ فترة لا تتجاوز أسبوعين، تناهت إلى أسماع سكان مباني «مشروع التعاضد الاجتماعي الماروني»، أخبار مفادها أن مؤسسة «كهرباء لبنان» ستشغّل أعمدة التوتر العالي الجديدة خلال فترةٍ وجيزة، وهو ما نفته مصادر مسؤولة في المؤسسة التي قالت إن الملف بات في عهدة مجلس الوزراء، وهي لن تخطو أي خطوة من دون قرار سياسي... إلا أن ذلك لم يثن الأهالي عن الاستنفار، وأقل المواقف حدّةً من الأهالي هي تلك التي يهددون فيها «بمناشير حديد ستقطع الأعمدة فور تشغيلها»، وإصرار فعاليات المنطقة، من نواب ومديري مدارس وسكان، على عدم السماح لهذا المشروع بأن يبصر النور. هي إذاً معركة بين مؤسسة الكهرباء ومن يقف خلف المرسوم الرقم 10009 (صادر عام 1997) في مجلس الوزراء، واعتبار المنطقة هناك جزءاً من مشروع الربط السداسي الذي سيربط لبنان بالأردن وسوريا وغيرهما من الدول العربية كهربائياً. قد يحسد البعض أهالي المنطقة على وجود نعمة الكهرباء قربهم، لكنّ سكان هذه المناطق لا يرون الخير في هذه النعمة «المصلتة» فوق رؤوسهم، باعثة إليهم بالأوجاع والخوف الدائم من حدوث صواعق قاتلة، نتيجة اصطدام البرق بالحقول الكهرومغناطيسية التي يصدرها عمود الـ150 كيلوفولت وحده. زد على ذلك، انخفاض القيمة الشرائية للأراضي والمنازل هناك، إذ إنه لا أحد يخاطر بأمواله ليكون جاره عمود توترٍ عالٍ. لا بل أكثر من ذلك، يشهد المجمع هجرة سكانه من بيوتهم، لأسبابٍ صحية وحتى نفسية، أما القاسم المشترك بين السكان هناك فهو من دون نزاع أوجاع الرأس، بحسب ما يقولون.
يهدّد الأهالي بمناشير حديد ستقطع الأعمدة الكهربائية فور تشغيلها
هكذا، هجر بهنام القارح منزله واستأجر منزلاً في حي الدكوانة، أما السبب؟ فهو أن جسم طفله ذي الأحد عشر شهراً، لم يعد يحتمل المكوث في بيتٍ تسلطّت عليه أعمدة الكهرباء. حصل ذلك بعدما أكد فحص طبي إصابة الطفل بفقر الدم، وبتناقص في نسبة الكريات الحمراء، وعندما شخّص الأطباء حالته التي تؤسس لسرطان دم، ربطوا وضعه بتأثير أعمدة التوتر العالي في عين سعادة. بهنام ليس «المهجّر» الوحيد، فكثر من جيرانه يعدّون «نصف مهجرين» بسبب لجوئهم طيلة النهار إلى بيوت أقاربهم البعيدة نسبياً، أما البيوت فلم تعد إلا للنوم. هذه الحال المأسوية لم «تقنع» مؤسسة كهرباء لبنان بضرورة تحييد المنطقة عن خط مرور الأعمدة. والزيارات الكثيرة التي قام بها الأهالي ونواب المنطقة إلى شخصياتٍ مؤثرة في القرار، لم تؤدّ إلّا إلى توقيف متقطّع للعمل في المشروع، لا توقّف نهائي. فيما يتردد عمال المؤسسة خلسة بين وقتٍ وآخر لاستكمال أعمال تمديد خطوط التوتر العالي بقوة 220 كيلوفولت.
ولمّا كانت المواجهة تحتاج إلى تدعيم كل جهة لرأيها بالمعطيات العلمية، التي تؤكد أو تنفي ضرر الحقل الكهرومغناطيسي على السكان، أعدّت «كهرباء لبنان» من جهة والأهالي من جهةٍ أخرى دراساتٍ عن هذا الموضوع، واستعان الطرفان بمعطياتٍ واردة في دراساتٍ عالمية، كانت نتائجها ضبابية، كحال الدراسات التي لا تؤكد وقوع الضرر، لكنها قطعاً لم تنف وجوده، وتطالب بإبعاد الأعمدة عن السكان في الحد الأدنى.
في عام 2006 قدّم رئيس قسم صحة المجتمع في الجامعة اليسوعية، الدكتور سليم أديب، دراسةً أوّلية عن التأثيرات الصحية للحقول الكهرومغناطيسية التي تمثّلها خطوط التوتر العالي، وخلص إلى نتيجة واضحة: «إن سائر الدراسات تتلاقى على وجود خطورة غير واضحة، لا على عدم وجود الخطورة، وخصوصاً في مجال سرطان الدم لدى الأطفال». وفيما استعانت «كهرباء لبنان» بتقارير من شركة «كهرباء فرنسا» التي تلتزم تنفيذ المشروع، وتؤكد عدم ضرر هذه الأعمدة، إضافةً إلى رأي منظمة الصحة العالمية الضبابي بشأن الموضوع، فاتها أن الوكالة الدولية للبحوث السرطانية، التابعة لمنظمة الصحة العالمية، قد أدرجت الحقول الكهرومغناطيسية (كما هي الحال في عين سعادة والمنصورية) «ضمن لائحة المؤثرات الفيزيائية ذات التأثير السرطاني الممكن». في حالة كهذه، تعتمد الدول المؤتمنة على صحة مواطنيها مبدأ الحرص، ويتجلّى ذلك في إيجاد بدائل تقيهم خطر التعرّض للموجات الكهرومغناطيسية، وهذا ما حصل مثلاً في منطقة البيرنيه، شرق فرنسا في آذار 2008، بعد حصول مشكلةٍ مشابهة تماماً لما يحدث في عين سعادة.
وبما أن الدراسات تجمع على أن تمديد خطوط التوتر العالي تحت الأرض هو الحل الأسلم والأكثر مراعاةً للشروط الصحية، اقترحت وفود نيابية وأهلية من المتن على رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة مشروعاً لتمديد الخطوط تحت الأرض، أسوةً بباقي المناطق اللبنانية، لكنّه رفض حينها متذرّعاً بعدم وجود الأموال الكافية. وفيما قدّم مجلس الإنماء والإعمار دراسةً تشير إلى أن كلفة التمديد تحت الأرض تبلغ 34 مليون دولار، قدّم سكان المنطقة دراسةً تشير إلى أن التكلفة هي 14 مليوناً فقط، لكنّ شيئاً لم يحصل من قبل الجهات الرسمية، التي تعتقد أن كلفة التمديد تحت الأرض لا تنحصر في المنطقة المذكورة، بل ستطال كل المناطق التي تمرّ منها خطوط التوتر العالي، إذ لن يقبل أحد بمثل هذا التمييز، ما يعني أن كل الخطوط القريبة من المناطق المأهولة ستزال لتُغرس في الأرض!
وفي هذا السياق، يلفت مصدر مسؤول في مؤسسة «كهرباء لبنان» إلى أن ملفات التوتر العالي والتقارير المتعلّقة بها هي في عهدة مجلس الوزراء الجديد، الذي يملك سلطة أخذ القرار الحاسم في هذا الشأن. وحتى صدور البيان الوزاري الجديد، ينتظر أهالي المنطقة بفارغ الصبر حلولاً إيجابية لهذه المشكلة، وإذ يشير رئيس لجنة الأهالي المتضررين جوزف كرباج إلى تذمّر السكان، وترك كثيرٍ منهم لبيوتهم التي تكبّدوا أثمانها قبل وضع أعمدة التوتر العالي، يناشد رئيس الجمهورية والبطريرك الماروني التدخّل لحل المشكلة نهائياً. من جانبه، يؤكد نائب المنطقة إبراهيم كنعان أن هذا المشروع لن يمر، مشيراً إلى العمل مع الحكومة الجديدة على حلحلته. أما الأمين العام للمدارس الكاثوليكية، الأب مروان تابت، فيؤكد لـ«الأخبار» أن أهالي المنطقة «لن يسمحوا لهذا المشروع المؤذي بأن يعمل»، مشيراً إلى وجود 12 ألف تلميذٍ مهدّدين بالأمراض في حال تشغيل أعمدة التوتر العالي.


«زعبرة» لنقل الأعمدةوفي منطقة السهيلة، رمت الكهرباء فتيين مسافة 35 متراً، أثناء نصبهما «دشاً» على سطح مبنى منزلهما القريب من عمود توترٍ عالٍ، ولا يزالان يخضعان للعلاج. وفي تلال عين سعادة، يخاف الأهالي الصعود إلى أسطح منازلهم، أو حتى تشغيل هواتفهم الخلوية، بسبب الحقل المغناطيسي القوي الذي يصعق أي جسم يحمل ذبذبات كهربائية وحرارية.
ويؤكّد بهنام القارح أن عدداً من السكان يتجهون إلى تأليف «الهيئة الوطنية للحماية من التلوّث الكهرومغناطيسي»، اعتماداً على الدراسات التي تتجه إلى حسم الجدل العلمي لمصلحة نظرية خطورة تثبيت أعمدة التوتر العالي قرب الأماكن السكنية.