ماذا حلّ بـ«الربيع العربي»؟ هل ما زال «ربيعاً» أم أن رياحاً باردة عصفت به فأفقدته دفئه؟ لماذا يبدو الجوّ مصفرّاً والمشاهد جامدة؟ هل هو المسار الطبيعي للثورات، أم أن «ربيع العرب» سيتحول إلى «ربيع براغ» آخر بنهاية مأساوية؟ أسئلة بدأ يطرحها بعض المراقبين في فرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل بعدما بدأت ترتسم ملامح ما بعد الثورات، التي تبدو، «غير مطمئنة» للكثيرين.
النبرة المتفائلة الاحتفالية التي طغت على الأجواء الصحافية الغربية مع بداية التحركات الشعبية في شمال أفريقيا والشرق الأوسط تحوّلت أخيراً إلى لهجة حذرة مشككة وتشاؤمية في بعض الأحيان. أوضاع تونس، مصير مصر، أزمة اليمن، حرب ليبيا، حال سوريا ومستقبل البحرين... علامات استفهام بالجملة تطرح حول كل بلد، والإجابات ـــــ في أحسن الأحوال ـــــ مؤجلة لحين.
طيف الفوضى والحروب الأهلية والتقسيم وشبح التطرف الإسلامي يخيّم على السيناريوات المطروحة، ومجريات الأحداث على الأرض لا تبعدها. لا جدار برلين ولا نظرية دومينو، بعض القادة ما زال صامداً وأنظمة قمعية عديدة ثابتة في المنطقة: «الربيع العربي» بالنسبة إلى البعض قد ينحسر «ربيعاً تركياً» أو «ربيعاً إسلامياً» لا أكثر. يتهكّم كلود إمبير في مجلة «لو بوان» الفرنسية قائلاً: «الأوليمبوس الدولي اجتمع في قمة الثماني في دوفيل كي يبارك الربيع العربي مثلما سمّته الدول الكبرى، وكأن ثمار تلك القمة ستنهي مآسي الشعوب العربية وتحدّ من التطرف الإسلامي وتوقف الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي الرهيب».
«التيار المتفائل» (بين المراقبين الفرنسيين والأميركيين) يختصر حماسته بنظرية أن ما يحصل في بلدان الثورات الآن، رغم كل مساوئه، هو «جزء من المسار الطبيعي» للثورة. هؤلاء ينظرون إلى الأمدين المتوسط والطويل، فيرون بشائر ديموقراطية «تشبه ديموقراطيتهم» ومشاريع دول تتلاقى مع أسس أنظمتهم. هم مؤمنون بأنّ الاقتصاد سينمو والحريات ستزدهر والمجتمعات ستتطور... لكن ليس الآن!
متى يحلّ «الربيع» إذاً؟ يجيب المتفائلون بأن علينا ترك الأمور تسير كما هي، ومن يتسلم الحكم في تلك البلدان، فعليه أن يحسن التصرف والقيادة، فإذا أفقر شعبه وأشعل حرباً أهلية، فالشعب لن يرحمه في صناديق الاقتراع ولن يتسلم السلطة مجدداً... وهكذا ستتحول الأنظمة إلى ديموقراطيات وستمارس الشعوب العملية الديموقراطية تلقائياً.
ديموقراطية الأمد الطويل والتفاؤل المعلّق هما بالضبط ما يقلق بعض المتابعين الغربيين. هم يرون أن هناك نوعاً من «المغامرة» و«المخاطرة» بترك الدول التي تخلّصت من أنظمتها القمعية للتوّ «تجنح إلى حيث تريد»، وخصوصاً أن تلك البلدان «غير معتادة الديموقراطية بعد». أصحاب هذه النظرية، يخشون مثلاً اللجوء إلى انتخابات فورية في تلك البلدان؛ لأن ذلك لن يفرز بالضرورة نظاماً ديموقراطياً، بل قد يفسح المجال لفئة متطرفة متسلّطة أن تصل إلى الحكم فتعيد النظام إلى ما كان عليه قبل الثورات أو أسوأ... «وهنا الكارثة». يقول توماس فريدمان في صحيفة «نيويورك تايمز» إنّ «الأنظمة العربية القمعية عملت على شلّ كل المؤسسات المدنية ومنعت كل الأحزاب التقدمية من المشاركة في الحياة السياسية طوال فترة حكمها. لذا، يتابع فريدمان، عندما تنهار تلك الأنظمة، تنتقل السلطة مباشرة من القصور إلى المساجد؛ إذ لا مؤسسات أو أحزاب شرعية بديلة قائمة بينها».
وبين نظرية دعوا الشعوب تقرر مصائرها و«تحصّل» ديموقراطيتها على مهل، والمتخوفين من الفوضى وانحراف مجرى الثورات، يبرز المتشائمون الذين حسموا النقاش وأعدّوا العدّة لشتاء قارس، سيمحو كل أثر نضر لربيع مرّ يوماً على العالم العربي.
لهؤلاء حجج اقتصادية ـــــ اجتماعية وسياسية ـــــ تاريخية، تثبت لهم أن «الربيع العربي» أصيب بلفحة برد قاضية، وهو يتجه من سيئ إلى أسوأ. واللافت أنّ اليمين واليسار والموالين كما المناهضين للسياسة الأميركية الخارجية اتفقوا على النتيجة نفسها، وإن تعدّدت أسبابهم ونظرياتهم.
تشاؤم المراقبين الإسرائيليين يتجه إلى فرضية واحدة، هي الحرب. بعض المقالات الإسرائيلية تتضمن جلداً للذات ولوماً للولايات المتحدة ولأوروبا لرعايتهما الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة لفترة طويلة.

إيران المستفيدة

أميركياً، يؤكد البعض أن أميركا في المنطقة ما قبل الثورات غير ما بعدها، ودورها إلى تراجع. هؤلاء يشيرون إلى الثقة التي كانت تتمتع بها الولايات المتحدة عند أكبر حلفائها، أي السعودية. تلك الثقة تزعزعت بنظرهم، ما دفع المملكة إلى البحث عن حلفاء استراتيجيين آخرين مثل ماليزيا وإندونيسيا وباكستان، لتحاول بناء ستار حديدي إسلامي يساندها بمواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد. «مفتاح السيطرة على الشرق الأوسط هو بجمع الأضداد والتحالف معها جميعاً في آن واحد، كجمع إسرائيل وتركيا والسعودية ومصر ودول الخليج في دائرة حلفاء الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة»، يقول مارتن كريمر من «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدن ى». «لكن هذه الدائرة بدأت تتخلخل عندما وقعت مشاكل بين إسرائيل وتركيا، والآن بدأت مصر والسعودية بالتحرك أيضاً»، يردف كريمر. بنظر المحلل الأميركي، «إيران هي المستفيد من تلك التحركات، وهي مستعدة للتحالف مع الإخوان المسلمين في مصر إذا خسرت سوريا وحزب الله... هكذا يصبح لدينا هلال إسلامي يمتد من تركيا مروراً بحماس وصولاً إلى مصر، بدلاً من الهلال الشيعي» والولايات المتحدة تبقى الخاسر الأكبر.
فرضية خسارة أميركا في المنطقة في مرحلة ما بعد الثورات، ينفيها سمير أمين في قراءة تحليلية للثورات العربية الأخيرة، وخصوصاً في مصر. أمين، يؤكد في مقال بعنوان «الربيع العربي خريف الرأسمالية؟» أنّ «جلّ ما تخشاه الولايات المتحدة هو حلول نظام ديموقراطي في مصر. لذا، ستحاول بشتى الطرق أن تمنع حصول ذلك، وقد تلجأ إلى بدائل خبيثة وخاطئة كالتحالف مع الإخوان المسلمين، لتحقيق غايتها». مدير «منتدى العالم الثالث» يفسر أن هذا الخوف الأميركي من تعميم الديموقراطيات في بلدان ما بعد الثورات وخصوصاً في مصر، يعود لأسباب اقتصادية وسياسية. برأيه، سيحدّ ذلك من الاقتصاد الليبيرالي الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة منذ سنوات، وسيكبح كذلك جموحها العسكري وتدخلاتها العدائية مع «حلف شمالي الأطلسي» في ساحات تلك الدول. لكن الولايات المتحدة، يضيف أمين، لا يمكنها أن تعترف على الملأ بأن استراتيجيتها ستكون بنشر أنظمة إسلامية للحفاظ على مصالحها؛ فهي بحاجة إلى أن تظهر دائماً أن هذا الأمر «يقلقها ويخيفها». وهي بذلك، تضمن استمرارية شرعنة «الحرب على الإرهاب»، وبالتالي استمرار سيطرتها العسكرية على الكوكب، وتضمن كذلك إبقاء «الإسلاموفوبيا» في العقول والنفوس. «وما خطابات باراك أوباما عن المنطقة إلا لتضليل الآراء الساذجة في الولايات المتحدة وفي أوروبا بشأن هذا الموضوع» يردف أمين.

نموذج باكستاني

لكن بأي صيغة ستسلّم الولايات المتحدة السلطة في مصر للإخوان المسلمين؟ يقول أمين إن الكثيرين يتحدّثون عن «النموذج التركي» لإحلال إسلام سياسي في مصر والمنطقة، «لكن ذلك ليس إلا ذراً للرماد في العيون»، لأن واشنطن ستعتمد مع الإخوان المسلمين في مصر النموذج الباكستاني: جيش «إسلامي» حاكم في الكواليس وحكومة «مدنية» يديرها حزب إسلامي أو أكثر، يشرح المحلل الاقتصادي في مقاله. هكذا، يتابع أمين شرحه، ستستمر تلك الحكومة «المدنية» بالرضوخ لاقتصاد ليبيرالي والسماح لإسرائيل باستكمال مخططها التوسعي تحت غطاء ما يسمى «اتفاق السلام»، وتكافأ على ذلك بإعطائها الضوء الأخضر لأسلمة الدولة والسياسة. طبعاً، السعودية ستدعم بكل طاقاتها المادية هذا المشروع بغية تحجيم دور مصر في المنطقة وإبقاء المملكة قوة إقليمية كبرى في العالم الإسلامي والعربي.
لكن هل يقبل الإخوان المسلمون بالمشروع الأميركي؟ بعد سرد لتاريخ مصر وتطور حركة الإخوان المسلمين عبره، يشرح أمين كيف أنّ اعتماد جماعة «الإخوان» على نظام اقتصادي مرتبط بالسوق وبالخارج، يجعلهم متسامحين مع فكرة الخضوع للنيوليبرالية الأميركية، وبالتالي لن يعارضوا سيطرة الولايات المتحدة على اقتصاد العالم واقتصاد المنطقة وسياستها. وفي ما يخص الإخوان المسلمين، يذكّر أمين بأن الولايات المتحدة الأميركية كانت تعلم أن نظام حسني مبارك (ونظام أنور السادات قبله) لم يحارب فعلياً «الإخوان» أو يعزلهم عن الحياة السياسية، بل دمجهم فيها وشاركهم الحكم بمنحهم سلطة على الإعلام والقضاء والتعليم. و«الخطاب الأميركي (في عهد جورج والكر بوش، كما في عهد باراك أوباما) يحاكي هذه الازدواجية في السياسة المصرية» يتابع أمين.
أستاذ الاقتصاد السياسي ليس متفائلاً جداً بمستقبل «الربيع العربي» الذي يبدو أنه لن يقضي على القوى الإمبريالية المسيطرة على هذه البقعة من العالم. يرى أمين أنه في حال فشل الثورات، سيبقى لدينا عالم عربي مهمش خاضع لسيطرة الآخرين، مفتقد للقدرة على اتخاذ القرارات ولا يؤثر في الساحة العالمية، تماماً كما هو الآن.
أليست تلك السياسة الأميركية ـــــ الأوروبية هي التي اعتُمِدت في مالي والفيليبين وإندونيسيا تحت شعار: «لنغيّر كل شيء كي لا يتغيّر شيء»؟



تمدد الهيمنة الأميركية

يدرك سمير أمين أنّ لكل دولة عربية خصوصياتها، وبالتالي لكل تحرّك ظروفه وأسبابه وعوامل نجاحه أو فشله. في ما يجري في ليبيا مثلاً، يقول إن الولايات المتحدة بحاجة إلى نقل أسطولها العسكري المخصص لأفريقيا، «أفريكوم»، من مقرّه الحالي في شتوتغارت الألمانية إلى حيث يجب أن يكون، أي قبالة السواحل الأفريقية. ذلك الأسطول الذي رفضت الدول الأفريقية استقباله إلى الآن، سيجد بالتأكيد مكاناً له وحكومة ترحب به في ليبيا «المحرَّرة» أو في بنغازي... هكذا ستستكمل الولايات المتحدة خريطة سيطرتها العسكرية على العالم. أمين غير مقتنع بأن مؤامرة ما أطلقت التحركات الشعبية، لكنه يؤكد أن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) تؤدي الآن دوراً فاعلاً بإبعاد المحتجين عن الأهداف الأساسية للثورة ونقلهم إلى جبهات أخرى. وهنا يلفت أمين إلى دور المدونين الناشطين الذين يدخلون ـــــ عن قصد أو عن غير قصد ـــــ في خطة الـ«سي آي إيه» تلك.